يحكى أن قبيلتين كانتا تعيشان داخل قلعة محصنة ومطوقة يصعب الخروج منها إلا لذوي الجاه والسلطان، ورغم قساوة العيش بها كان يعم جو من الحب والمودة بين سكانها لعقود طويلة خلت، ذات يوم جاءهم رجل حكيم ذو بصيرة أخبرهم بأن الطيور التي تولد داخل القفص تعتقد أن الطيران جريمة، فلم لا تخرجون من القلعة التي يوجد خلف حصونها ما لذ وطاب مما تحلو به الحياة، فطلبوا منه بشدة أن يجد لهم سبيلاً للفرار وشق طريق السعادة.. فدلهم على سر الخروج من ضنكهم بأن يتحدوا ويتعاونوا لأن هناك سُلماً واحداً هو السبيل الوحيد لتدارك حصون القلعة، فاحتد النقاش بين القبيلتين بسبب بعض السفهاء وكثر القيل والقال من أين جاء السُّلم ومن سيكون السُّلم تحت إمرته.. وبعد زمن ليس بالقصير من الجدال وصلوا إلى حل وسط بزعمهم، وهو أن يقسم السُّلم إلى نصفين بين القبيلتين، ففعلوا، فما نجا هؤلاء وما صعد هؤلاء.. وبقوا داخل القلعة يُسقَون من مرارة عقولهم وأفئدتهم.
نفس الشأن ينطبق على هذه الأسطوانة العجيبة التي لا يزال بعض منا يلوكها بلسانه ويستمتع بجر الحبل نحوه، هذا الصراع الثقافي العربي الأمازيغي الذي أصبح موضوعاً يناقش تكراراً دون مراعاة أبجديات أدب وأخلاقيات الحوار الهادف خصوصاً داخل مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب والجزائر وغيرهما. فهل سأل أحدنا يوماً نفسه بصدق لماذا أتعصب لهذا الرأي دون ذاك؟ وما الهدف من هذا النقاش كله؟ وبصفتي هذه ماذا قدمت للإنسانية؟ وهل هذه الأسطوانة الكلاسيكية هي التي ستحل جميع المشاكل التي نتخبط فيها أخلاقياً وفكرياً واقتصادياً؟
فالتعصب للعرق واللون والدين من أكبر مشاكل العصر منذ الجاهلية، حيث مازالت وللأسف بعض الدول والتي تعتبر نفسها متحضرة وقوية اقتصادياً تتعصب للون الإنسان وعرقه حيث عانى السود من الاضطهاد قبل مالكوم إكس وبعده وذاقوا الويلات بسبب طائفة متحجرة الدماغ قدست عرقاً دون آخر، والجريمة الحديثة التي قام بها الشرطي الأمريكي في عز أزمة كورونا بخنق رجل أسود من أصول إفريقية حتى قتله خير دليل على ذلك، الشيء الذي لم يأتِ به أي نبي من الأنبياء ولا رسول من الرسل، ولن تجد أي كتاب من الكتب السماوية الأربعة السليمة يفضل عرقاً على آخر، فمن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. كما قال الشاعر: إذا افتخرتَ بأقوامٍ لهم شرفٌ قُلنا صدقتَ ولكن بئسَ ما وَلَدوا.
فعوض أن تتَّحِد الشعوب على محاربة كل مفسد في الوطن والسعي وراء الازدهار الاقتصادي والبحث العلمي والعيش الكريم وتكافؤ الفرص، تراهم يضيعون جهدهم في محاولة إثبات من هي القبيلة الأولى التي سكنت هنا أو هناك ونسوا أننا مجرد مسافرين كلنا راحلون اليوم أو غداً. فلنفترض أن الأمازيغ أثبتوا بقوة أنهم هم أول من سكن بقعة ما، فهل هذا يعني أن غير الأمازيغ مطالبون بجمع حقائبهم؟ ولو ثبت العكس فهل يرضى غير الأمازيغ أن يفعلوا ذلك بإخوانهم الأمازيغ؟ كلها مجرد سيناريوهات لأفلام سينما الخيال لا يقبلها كل من كان في جمجمته دماغ يتحرك بسرعة ربع كيلومتر في الساعة.
جل الدول العظمى يعيش على أرضها أناس من شتى المشارب والمذاهب من الكرة الأرضية مع ذلك نادراً ما يناقشون مواضيع تافهة كهذه ولا تسمع إلا المنافسة في البحث العلمي والابتكار والذكاء الاصطناعي والمال والأعمال وتوفير الرفاهية للجميع.
البطاقة الوطنية لأحد أقاربي الذي ازداد سنة ١٩٥٠ تحمل سنة ازدياده فقط ولا يعلمون شهر ولا يوم ميلاده قط، وأغلبنا لا يعرف تاريخ ولا مكان ازدياد جد أبيه بالحجة الدامغة، وكلما رجعنا من جد إلى جد زادت نسبة الغموض وازدادت الصورة ضباباً، فبالأحرى الحديث عن أمور وقعت قبل آلاف وملايين السنين. كما أن هناك مجموعة من التزاوجات التي جمعت قديماً بين عدة قبائل مختلفة تتباعد بينها بآلاف الكيلومترات إما بسبب القوافل التجارية أو الهجرة الناتجة عن الحروب وغيرها مما أدى إلى اختلاط الأنساب، وتبقى التكهنات التاريخية تحمل في طياتها نصيباً من الخطأ والصواب. كما أن أولئك الذين يجرون وراء الأخبار والكتب القديمة يتناسون أن جل الدراسات تشوبها بعض الشوائب التي تخدم فئة دون أخرى سياسياً واقتصادياً أو بسبب هفوة عن غير قصد، أو قد يأتيك بحقيقة واحدة مغلفة بآلاف الأكاذيب لحاجة في نفس يعقوب، فالمؤرخون ليسوا أنبياء وكتبهم ليست قرآناً منزلاً لنصدقه كله، وها هو ذا تاريخ اليوم يُزَوَّر بين أعيننا كل يكتب ويفسر ما يقع حسب هواه إلا من رحم ربك، فإذا كانت كتب مقدسة قد طالها قلم التحريف والتدليس فما بالك بما هو دونها. لذلك وجب البحث عن المعلومة في أكثر من مصدر واحد ليتبين لك الحق من الباطل وأن تتحرى المصادر الموثوقة هنا وهناك.
فمعظم هؤلاء يتكلمون وينشرون تلك الخطابات التي تستدرج ضعاف العقول وتوقظ عروق العنصرية وتسبب التفرقة بين الناس ثم تنغلق القلوب إلى ما يشبه سواد الغربان بعيداً عن شعاع النور، متناسين أننا نركب سفينة واحدة إما ننجو جميعاً أو نغرق جميعاً، فالجهل والفقر، والتفرقة أخطر المعاول والعواصف التي ستؤدي حتماً إلى إغراقها.
كلكم من آدم وآدم من تراب، لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، فلا شريف إلا من شَرفه عِلمه وخُلقه.
ومنهم السذج الذين يتبعون أثر من سبقهم بغير علم نحو المجهول، على غرار التصريح الذي قدمه أحد المتظاهرين لما سأله الصحفي عن الموضوع وسبب تواجده في المظاهرة فلم يجد جواباً واكتفى بقول إن المنظمين وعدوهم بتحمل مصاريف النقل والأكل طيلة مدة الاحتجاج.
أتذكر قصة طريفة وقعت لأحد التلاميذ لما كنا في سلك البكالوريا في حصة للرياضيات بثانوية ابن طاهر بالراشديةِ عند أستاذ كيِّس فطن، منحنا مهلة ربع ساعة لحل تمرين دالة لوغاريتمية بعد أن شرح الدرس بتفصيل ووقف خارج القسم يسترجع قواه، فلما رجع رأَى زميلي يحفر الطاولة الخشبية بالبركار أحدث في قلبها ثقباً جائراً، سأله الأستاذ عن التمرين فوجده لم ينجزه بحجة أنه لم يستوعبه، فقال له بحكمة: تلك الطاقة التي ضيعتَها لخرق جسد الطاولة لو ركزتها في التمرين ببصيرة لوجدت الحل ومثله معه.
وكما هو معروف في علم الفيزياء أنه عند اشتغال المحرك يضيع جزء كبير من الطاقة على شكل حرارة، فمن وجهة نظري، لو تركنا تلك النقاشات العقيمة والجهود والأموال الضائعة في الندوات والمظاهرات والمقالات الفارغة واتحدنا وركزنا كل جهدنا وقوانا في اتجاه واحد هو العيش الكريم لكل مواطن أياً كان موقعه ونوعه ومحاربة كل مفسد تسول له نفسه أن يعبث بمصير شعب لكان أقوم وأشد تثبيتاً.
فلا أحد له الحق في أن يجبر الآخر على تغيير ثقافته، فجميع قبائل الأمازيغ أحرار ولهم الحق في الاعتزاز بثقافاتهم وهوياتهم، وغير الأمازيغ أحرار ولهم الحق كذلك في الاعتزاز بثقافاتهم وهوياتهم، في ظل الاحترام المتبادل وقيم الحب والتسامح والتعايش بين مختلف الأديان. ومن القوانين الكونية المعروفة لدى الجن والإنس إلا من جحدها، أن تُعامِل الآخر بالطريقة التي تحب أن تُعامَل بها، فلا تنتظر من شخص آخر أن يحبك ويحترم ثقافتك إن لم تكن أنت بالأساس تحترم ثقافته.
فلا حياة بدون اختلاف، والذي يولد التكامل ويعتبر في جوهره جمالاً كألوان الطيف في يوم بهيج أو كجمال الألوان الزاهية في لوحة بديعة، كزهور باهية بين أحضان البساتين المتناثرة هنا وهناك لتبدأ الزقزقات والتغاريد تملأ الشعاب والوديان بتلاحين تترنح لها الأشجار طرباً وترسم أبدع السيمفونيات البشرية، فإذا خربت لن تستطيع المعازف ولا المقامات ترتيبها من جديد.
وبخصوص قضية اللغة، فالكلمة الأولى والأخيرة للعلم والعلماء، وقد جاء كورونا ليؤكد لنا ذلك، فإذا كان جزء من الأمازيغ يدافعون بإجماع عن حرف تيفيناغ فمن حقهم أن يفتحوا مراكز ثقافية لذلك أو مدارس خاصة تهتم بالأمازيغية أكثر من اللغات العالمية والأجنبية، ومن حق كل مغربي يؤمن بالفكرة أن يسجل أبناءه في تلك المدارس وألا يكون ذلك إجبارياً على الكل؛ مع احترام جميع الآراء والمواقف. فإذا علمت أن أكثر من 90٪ من المعلومات المتوفرة على شبكة الإنترنت في العالم كله هي باللغة الإنجليزية، وأقل من 10٪ تشترك فيها باقي لغات الأرض، وأن كل البحوث العلمية والأدبية الرائدة في العالم تنجز باللغة الإنجليزية، فحينئذ حُق لك أن تختار اللغة التي تدافع عنها والتي تؤمن بأنها ستوصلك إلى بر الأمان.
فلكي تبصر النور لابد أن تكون ذا همة وفِراسة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.