الليلة التي مات فيها أبي

عدد القراءات
725
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/01 الساعة 14:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/01 الساعة 14:15 بتوقيت غرينتش

قبل وفاة أبي بفترة وجيزة عرفت الموت في وجهه، شيء ما مبهم تسلل إلى قلبي وأسكن ذلك الإحساس وغادر، عشت طيلة هذه المدة في كمدٍ لا يُطاق، مكبلاً بذلك الإحساس القاتل، أتخيل أبي راقداً كجثة هامدة لا تقدر على شيء، أتخيل لحظة خروجه من بيته، لحظة دفنه، لحظة بكائي وعويلي، ورغم مقاومتي المستمرة لهذا الإحساس لكنه غلبني وتملكني تماماً.

في الليلة الأخيرة لأبي في الحياة الدنيا، وتحديداً الساعة العاشرة والنصف من مساء يوم الأربعاء 25 مارس 2020، قلت له بينما كان هو مشغولاً بالحديث مع أمي: 

– بابا تشرب شاي!

– لا يا أستاذ، أنا عاوز آكل.

– حاضر هاسخن الأكل حالاً.

– لا لا لا أنا عاوز حتة جبنة بيضا ولمون مخلل ورغيف عيش، وكتر خير حضرتك.

أحضرت له ما أمر به، ثم قلت له:

– بابا في لبن أسخنلك كباية دافية؟

ردت أمي هذه المرة قائلة:

– لاء، لبن لاء عشان الكحة.

– وإيه علاقة اللبن بالكحة يا أمه، هو أي تأليف وخلاص.

– أنا مش عارفه إيه أمه دي، اسمي ماما.

ضحكتُ وأبي على غرار المعتاد، ثم أحضرت له كوب اللبن الدافئ.

بعدما فرغ من الأكل بساعة تقريباً، نهض أبي من رقدته واطمأن على أخي "إسلام" الذي دخل غرفته لينام، وكذلك أختي "نهى"، واتصل بأخي "أنور" وأجبره على غلق الصيدلة مبكراً، وكانت المرة الأولى تقريباً التي يجبره فيها على المجيء قبل وقته المألوف، وكانت أيضاً هي المرة الأولى التي يُذعن فيها أنور دون تذمر، بل، وبالغ في إذعانه.

كل إيماءات أبي كانت تشير إلى رجل يودع الدنيا.. لكننا لم نفهم الرسالة!

جلسنا معاً جلستنا الاعتيادية نتسامر في شؤوننا الخاصة ونحن نحتسي الشاي، نضحك، نخطط، نرسم أحلامنا المستقبلية، بينما أبي كان يستمع إلينا استماعه الأخير، وإذ بغتة ودون أي مقدمات وقع طريحاً بيننا على الأرض دون أن ينبس بكلمة واحدة تشفي صدري الأليم، انكببت عليه، أهز جسده، أرجوه أن يبقى وأنا أقول في مرارة:

– قوم يا بابا.. عشان خاطري قوم.. لسه بدري.. فيه حاجات كتير لسه عاوز أحكيهالك.. رد عليا أرجوك.

لكنه لم يرد، لأول مرة يخذلني أبي ويتجاهلني.. أهو الموت يفعل ذلك؟!

زعق أنور فيّ لأول مرة:

– مش وقته خالص، اجمد عشان أبوك.

أفاق الجميع من هول المصيبة، وحملناه إلى المشفى بقلوب فزعة، كنت أعرف أنه قد فارق الحياة لا مناص من ذلك، لكننا كذّبنا أنفسنا المتيقنة من مرارة النبأ.. خرج علينا الطبيب بكل برود بعد أداء كشفه الاعتيادي وقال بلكنة خالية من المشاعر: 

– البقاء لله يا جماعة.

فيا له من جبروت يمتلكه هذا الطبيب؟!

مات أبي في دقيقة إلّا قليلاً، شهق شهقة الموت بين حضني، ولم يعان من لحظة خروج الروح قط، فكان الأمر هيناً ليناً عليه، ومفزعاً مخيفاً لنا.

لم أجد أدنى رغبة في عمل شيء سوى الاستسلام لكل الوجود من حولي، ربت على كتفي أقاربي وأصدقائي، ثم عانقني أصدقاء أبي المقربون قائلين في إشفاق:

– شد حيلك.. إنت الكبير.. شلت الهم بدري.. إنت خلف لأبوك.

مجرد كلمات مكررة تقال في مناسبات محددة، لكني عدت سائلاً في نفسي: ومن يخفف عني أنا، من يحمل همي بعد أبي، ألم يعلموا أني فقدت صديقاً قريباً، وجليساً صادقاً، وحبيباً لم تنجب النساء مثله؟ فيا ليتكم تعلمون.

عاش أبي طيلة حياته يحمل بين ثناياه هموماً عظيمة أضمرها في قلبه، وأمراضاً مزمنة كالسكري والضغط والقلب، لازمته طويلاً وآلمته مراراً، لكنه تغلب عليها جميعاً بالصبر، فتعجبت كما كان يتعجب الأطباء ويتساءلون من حالة أبي: "إنت ازاي ماشي كده يا حاج محمد"؟ فيرد أبي: "بفضل الله يا دكتور".

في الأيام الأربعة الأخيرة لأبي في الحياة، تعب تعباً شديداً من "الكحة"، فقال لي في ألم خبأته في قلبي: "الكحة دي بحس إنها هتخلع قلبي".. داواه "أنور" قدر ما استطاع ريثما يعود طبيبه المعالج من الخارج، كنت أشعر بقلة الحيلة تجاه أبي، ماذا عساي أن أفعل؟ فلم أجد مفراً من هذا كله إلا بالصلاة في جوف الليل أطلب من الله التخفيف، إلى أن جاء اليوم الرابع فتحسن تماماً وبات على خير ما يرام، علمت وقتها أن الله قريب مني.

وفي عصر اليوم الأخير لأبي "غفر الله له"، أنهى ورده القرآني متوقفاً عند منتصف سورة "طه"، وبحسب رواية أمي، قالت إنه ظل يدعو لأبيه طويلاً في هذا اليوم، حتى إن أمي قالت له مازحة: "كفاية أبوك هتلاقيه في أعلى مكانة في الجنة دلوقت".

يشهد الله أنه كان يوقظني لصلاة الفجر كل ليلة.

ويشهد الله أنه كان مداوماً على قراءة القرآن كل يوم وليلة.

ويشهد الله أنه كان دائم الدعاء لأبيه ولأخته ولأموات المسلمين.

فاللهم شفّع فيه القرآن.

بعد هذا كله..

أعترف أن الله نصرني وأجبر خاطري حين استجاب لدعائي اللحوح في جميع صلواتي، "اللهم لا تقبض روح أبي إلا وأنت راضٍ عنه، اللهم لا تقبض روح أبي إلا بين يدي، فإني لا أطيق أن يهاتفني أحدهم ببجاحه ويقول لي (تعال عشان أبوك مات).

وقد استجاب الله..

فاللهم لك الحمد..

ورحمك الله يا حبيبي..

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود عبدالعزيز
محرر صحفي
حاصل على دبلوم في العلوم السياسية ودرجة باحث سياسي في مجال الإعلام، كما حصل على تمهيدي ماجستير من معهد الدراسات العربية، والآن في مرحلة التحضير للماجستير، وأعمل محرراً صحفياً في موقع إلكتروني.