عادة ما تكون حياة السياسيين المخضرمين بين المقاومة المعارضة والسلطة، غنية بجوانب كثيرة باعثة على التأمل والدراسة، نظراً لكونها شاهدة على الآمال العريضة التي وجهت إرادة المجتمع والنخبة في الرمي برداء التخلف والاستبداد، والانخراط في التحديث والديمقراطية، حيث يمكن صياغة مرحلة زمنية تتحقق فيها بعض أشكال المساواة والعدل والحرية والكرامة، التي شغلت هواجس مختلف الأيديولوجيات والحركات المجتمعية، وهي تعمل على تعبئة الجماهير لافتكاك الحقوق من الفئة المسيطرة، أو نسق السلطة القائم الذي ينبغي تحديثه وزرع روح جديدة بداخله. فحياة هؤلاء السياسيين لا يمكن فصلها عن الحقب أو التاريخ الذي كانوا فيه جزءاً منه، ومن ذلك في السياق المغربي المعاصر، فقد شكل عبدالرحمن اليوسفي حالة متفردة في المشهد السياسي والمجتمعي العام، لكونه واحداً من كبار زعماء اليسار الذين كانت لهم فاعلية من أوجه متنوعة، أي من خلال مرحلة المقاومة من أجل التحرير ثم لاحقاً الصراع من أجل الديمقراطية والتحديث، وفي مرحلة أخيرة حينما قاد تجربة التناوب من موقع وزير أول، لإنقاذ المغرب من "السكتة" التي كانت تتهدده في تسعينيات القرن الماضي، ليعتزل بعدها غاضباً المشهد السياسي.
لكن هل تحقق ما كان يطمح إليه عبدالرحمن اليوسفي، أم أن قدر المغرب أن يعيش على وقع الإجهاض المتكرر لتجارب الانتقال إلى الديمقراطية؟
تشكّل وفاة اليوسفي لحظة مهمة لاستحضار جزءٍ من التاريخ السياسي للمغرب، وتتبع العوائق التي منعت المغرب من وضع سكته على المسار السياسي الصحيح، حيث كانت الكلفة باهظة في عدم تحديث النظام السياسي والانتقال إلى الديمقراطية، هذا المفهوم قد برز مع اليوسفي في بلاغ اعتبر فيه حزبه حينها أن الابتعاد عن احترام شرعية الانتخابات في تعيين الوزير الأول من التكنوقراط عقب انتخابات سنة 2002 بمثابة "خروج عن المنهجية الديمقراطية"، والمشهد السياسي المغربي في مساره الطويل حافل بالمفاهيم الدالة على توصيف لحظات التقارب أو الابتعاد بين القوى الوطنية وبنية الحكم، من ذلك فيما له علاقة بالإرث السياسي للمكون السياسي الذي كان ينتسب إليه اليوسفي، نجد مفهوم التناوب التوافقي الذي قاد بمقتضاه اليوسفي حكومة 1998، كان ممكن التحقق في سبعينيات القرن الماضي، حيث حصل التقارب بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية -الاتحاد الاشتراكي الآن- والقصر بعد مرحلة قاربت العقد والنصف من الصراع، سُميت مرحلة الاستثناء، شهد فيها المغرب تعطيل المؤسسات الدستورية والدخول في مرحلة الحكم الفرد، ما نتج عنه عدة اضطرابات، والاستبداد في الحكم والاستفراد به في طبيعته مشتل للاضطراب والفوضى، ولو برزت مظاهر الاستبداد في الواجهة كونها تجسد النظام والقوة والسلطة، فإن شرعية ذلك في حقيقته قائم القهر.. والقهر عادة لا ينتج مجتمعاً سوياً ولا يعمر أرضاً، إنما ينثر بذور الخراب والتخلف هنا وهناك.
لذلك كان التوافق مسعى للخروج من حالة الاستثناء، التي هي استفراد بالسلطة من طرف الحسن الثاني ومعه القوة الثالثة التي بقيت تخدم منظومة الاستعمار الفرنسي، إلى حالة التوافق واقتسام هذه السلطة من خلال تأمين انتخابات حرة ونزيهة وإطلاق صيرورة جديدة لبناء مغرب ما بعد الاستقلال يتم فيه من التخلص من الانسداد، ويتجاوز من خلالها منطق الحكم الفرد، توحيداً للجبهة الداخلية في أفق تحرير الصحراء المغربية التي كانت تحتاج إلى كل الطيف الوطني. كان هذا مقابل قيام الحزب الأكبر في البلاد حينها بالقيام بمراجعة لأطروحته السياسية التي كانت قائمة على وثيقة الاختيار الثوري.
عمل الحزب الذي يمثل القوة الأولى في المعارضة على تغيير أطروحته السياسية في مؤتمر استثنائي، من الاختيار الثوري إلى التقرير الأيديولوجي الذي يؤكد فيه على الاختيار الديمقراطي، وهو التقرير الذي صاغه كل من المرحوم محمد عابد الجابري والشهيد عمر بن جلون، لكن ينبغي لنا أن نتساءل هنا:
إذا كانت السياقات السابقة لهذا التحول في الرؤية السياسية والمذهبية للاتحاد الاشتراكي الذي كان ينتسب إليه عبدالرحمن اليوسفي، متأثرة بعدة عناصر منها التقارب بين القوى الرئيسية في البلاد من أجل استئناف ما تعطل بفعل صراع طغى على المشهد بعد الاستقلال، لماذا لم يكتب له إحداث تغيير فعلي أو لم ينجح وبقي إحداث التحول في نسق الحكم على أرضية الديمقراطية مجرد حلم غذى مخيلة الحالمين بمغرب حر ديمقراطي ليكون الواقع محكوماً بطبيعته الى القهر والاستبداد، بل وينتظر المشهد قرابة عقدين ونصف ليتم تجريب وصفة التناوب التوافقي مع المرحوم عبدالرحمن اليوسفي؟
هل من قدر القضية الديمقراطية في المغرب أن تعيش على وقع التأجيل والتزوير كما كتب الجابري يوماً، أو لنقل الإجهاض المستمر؟
نقول هذا ونحن نستدعي بعض التاريخ لنقرأ الواقع الذي يعيش معالم انتكاسة أخرى عن دستور 2011 وتمدداً واضحاً للسلطوية وقتل المفهوم النبيل للسياسة وتجريف المشهد السياسي برمته، ما يهدد بالدخول في مرحلة فراغ إذا تم إضعاف وتفكيك المكون الحزبي والمدني كما هي العادة مع الأحزاب والمجتمع المدني.
لقد كان إجهاض إمكانية قيام تناوب توافقي مع عبدالرحيم بوعبيد في سبعينيات القرن الماضي، تعبيراً عن التراجع عن خيار التوافق واقتسام السلطة مع القوى السياسية الرئيسية في البلاد، كما تم بشأنه التوافق المبدئي بين بوعبيد والحسن الثاني، لكن هوى التحالف مع القوة الثالثة غلب على الانخراط في الديمقراطية، التي يبدو أنها في السياق المغربي، لا تتجاوز كونها مفهوماً للاستهلاك وتلميع الصورة للخارج، بينما نسق الحكم يبقى على حاله ببنياته وثقافته العتيقة التي ترفض تشرّب قيم العصر السياسية.
ونحن إذا نظرنا إلى مفهوم القوة الثالثة الذي برز لتوصيف المكون الذي أبقاه الاستعمار، وكان له حضوره حكومة بعد الاستقلال مع رضا اكديرة وغيره، فإنه قد برز في السبعينيات مع ما سُمي الأحرار، حيث زورت الانتخابات لصالحهم، والمرشحون الأحرار في الواقع السياسي المغربي الآن، هو حزب "التجمع الوطني للأحرار" الذي خرج من رحم "الإدارة" للقيام بمهام الإعطاب الديمقراطي، فمهة القوة الثالثة كامتداد لمصالح اللوبي الاستعماري المعادي للديمقراطية والاستقلال والحرية، لم تتغير، بل ألبست لبوساً حزبياً في المشهد السياسي منذ جبهة الفديك، إلى حزب التجمع الوطني للأحرار وغيره من أحزاب الإدارة، التي عرفت بتحالفها الموضوعي لإعاقة الانتقال إلى الديمقراطية، وإفراغ العملية السياسية من مضمونها، واستبدال ذلك بخطاب يلمع التكنوقراط واللوبي الاقتصادي الذي نشأ في حضن الريع، ولا عهد له أو اقتناع بأنه له إمكانية الاستفادة من الدمقرطة.
كانت تجربة اليوسفي في سياق من الانفتاح السياسي لتجاوز الأزمات الكامنة نتيجة الاختيارات الخاطئة في الاستفراد بالسلطة والحكم، لذلك علقت عليه آمال كثيرة في الدمقرطة والتحديث والتقدم، نظراً لكونه يجسّد تلاقياً بين الملكية والأحزاب الوطنية، غير أن ما تم الاتفاق عليه تم التراجع عنه، بالانزياح للهوى الاستبدادي الكامن في بنية النظام، والذي تغذيه عدة أطراف وتعيق عملية التحلل من الجلد القديم للنزعة السلطانية التي تنظر إلى السلطة في إذلال الآخرين وإضعافهم والإبقاء عليهم في وضعية الخدم، كما أن هذه النزعة تجد لها بشكل دائم من يحصنها ويدافع عنها من القوى المناهضة للإصلاح أو التغيير، وقد أشرنا إلى القوة الثالثة والأحزاب القريبة من السلطة.
فكيف هي وضعية إعطاب الديمقراطية والعناصر الفاعلة في ذلك خلال حقبة اليوسفي، ومنه يمكن أن نفهم الوضع في زمننا الراهن؟
يشير الجابري لطبيعة المعوقات التي اعترضت اليوسفي في سياق المقارنة قائلاً: أما في المغرب فالقوى المقاومة للإصلاح صنفان:
صنف مكشوف يقاوم الإصلاح باتهام الحكومة بالعجز عن القيم بالإصلاح، أو على الأقل بكونها تمارسه ببطء! وهذا الاتهام ينتمي إلى ذلك الصنف الذي يقال فيه كلمة حق أريد بها باطل، هناك بطء فعلاً وهذا حق. لكن التنديد به من طرف القوى التي صنعت الإرث الذي يجعل الإصلاح اليوم ضرورة ملحة تنديد لا يمكن أن يدخل في دائرة الحق. بل هو "حق" مزيف يراد به أو يمكن أن يراد به باطل. ذلك أن اتهام قوى الإصلاح بالعجز عن لإصلاح معناه التشكيك في صلاح الإصلاح الذي تدعيه، وبالتالي يكون إبقاء ما كان على ما كان هو عين الإصلاح.
أما الصنف الثاني من القوى المناهضة للإصلاح فهو خفيّ لا يتكلم لا في البرلمان ولا على صفحات الجرائد، وبعض العارفين يطلقون عليه جماعة الضغط، وبعضهم يسميه الحزب السري". (محمد عابد الجابري، الانتقال الى الديمقراطية في المغرب، أسئلة وآفاق، مواقف)
تلك القوى المناهضة للإصلاح أو الجيوب المقاومة للتغير في النسق السياسي المغربي، عطلت إمكانية الانتقال في لحظات متتالية ومستمرة، وما تم مع اليوسفي تكرر في مرحلة ما بعد 2011 بالمغرب، بل إن هناك رهاناً آنياً بضرورة التراجع عن الخيار الذي نهجه المغرب سنة 2011، وبالنظر عملياً إلى المشهد السياسي الراهن ومساءلته عن واقع الديمقراطية ورهانات المواطنة والحرية، فإن هناك مؤشرات عدة واضحة تجلي النكوص عن مسار ما سُمي الانتقال الديمقراطي -التي سنشير لها في مقال آخر- ما يجعل السؤال التالي مشروعاً: هل المصير الحتمي للديمقراطية في المغرب هو الإجهاض المستمر؟ ألم يحن الوقت للانخراط في أفق جدي للتحديث والدمقرطة تجنباً للمجهول الذي قد تخلقه الممارسات القديمة التي لم تعد مقبولة في السياق الراهن؟
من خلال الوقائع التاريخية التي أخلف فيها المغرب موعده مع الديمقراطية والتحديث السياسي، يبدو أن كلمة الديمقراطية مغرية له للاستعمال في اللحظات الحرجة، حيث توظف لتجنب مجموعة من التحديات ليتم التراجع عنها، ما يعني أن نسق الحكم والنخبة السياسية لم يتوافر لهما الوعي بعد، بخطورة التعثر المستمر الذي أدى إلى شرخ في الثقة، ولذلك فإنه من باب النقد للمسار السياسي لليوسفي عقب اختياره العزلة السياسية والقتل البطيء الذي تعرض له حزبه، أنه اختار الصمت في مرحلة ما بعد 2011 وغيرها، حيث كان صوته سيكون مؤثراً في صياغة التعاقد الجديد الذي يبدو أنه لم يتم، لاسيما أن اللحظة كانت تقتضي هذا الإزعاج المستمر لبنية الاستبداد التي انقلبت على المنهجية الديمقراطية.
ختاماً نشير إلى أن الأمر بالمغرب كان سيكون مغايراً لو ودّع رموزه السياسية من أمثال عبدالرحمن اليوسفي وغيره، وهم يرون خلفهم ما حلم به وناضل من أجله محققاً، بدل أن يأخذ معه هو وغيره كمد إجهاض تطلعات المغاربة في الحرية والعدالة والديمقراطية، من أجل مغرب يتساوى فيه الناس أمام القانون والمؤسسات والفرص، كما يتساوى فيه الهامش بالمركز.
يبدو أن المغرب من قدره تبديد إمكانات بناء دولة المواطنة في كل فرصة يجود بها التاريخ.. وهو ما أشرنا إليه، منذ الأزمنة التي مضت إلى الزمن الراهن حيث نشهد تراجعاً بيناً لخيار الدمقرطة والتحديث ومصادرة الحريات، وكأن نسق المخزن في المغرب يشيع كل الذين طالبوا بإصلاحه، ليبقى كما هو في طلائه الجديد وروحه القديمة التي تنتمي إلى الأزمنة السلطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.