عبدالرحمن اليوسفي.. قصة السياسي الذي اختزل مرحلة كاملة من تاريخ المغرب

عدد القراءات
3,646
تم النشر: 2020/05/31 الساعة 14:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/31 الساعة 14:06 بتوقيت غرينتش
السياسي المغربي الراحل/ عبدالرحمن اليوسفي

البحث في سيرة السياسي عبدالرحمن اليوسفي يحيل إلى البحث أيضاً في تاريخ المغرب الحديث، ويكشف عن التناقضات غير المفهومة التي أفرزتها البلاد طيلة هذه المدة، فهو الذي قاوم الاستعمار وانخرط برئة واحدة في صفوف معركة البناء إلى جانب الراحل محمد الخامس رحمه الله، ثم قاد بمعية كل من عبدالله إبراهيم والمهدي بنبركة وعبدالرحيم بوعبيد وآخرين حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أحد أكبر الأحزاب المعارضة في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، وهو الشيء الذي جر عليه الكثير من المتاعب والمحن والاعتقال والحكم الغيابي بالإعدام لأكثر من مرة.

يعتبر عبدالرحمن اليوسفي، نموذجاً حياً للسياسي الذي يمكن وصفه برجل المهمات الصعبة، ذلك أن مساره عرف عدة منعطفات وتقلبات سياسية، ابتدأ بلعب الرجل دور المشاكس والمعارض الذي حكم عليه بالإعدام غيابياً أكثر من مرة، وانتهى بالقبول في الدخول إلى المعترك السياسي مع الحكومة التي ستعرف فيما بعد بـ"حكومة التناوب" ثم الخروج والانسحاب من الساحة السياسية والعودة إلى الترحال والتنقل ما بين مدينتي الرباط وكان الفرنسية، فكيف صنع عبدالرحمن اليوسفي مساره التاريخي، وهل استطاع أن يحقق المرامي والأهداف التي جاء من أجلها، وما هي الأسباب والخلفيات التي أدت إلى انسحابه من عالم السياسة؟

جيل اليوسفي            

ينتمي عبدالرحمن اليوسفي إلى جيل "الحركة الوطنية" الذي رسم وما زال يرسم إلى اليوم علامات وضاءة ليس من السهل، كما يرى باحثون ومتتبعون، أن يأتي الزمان بها، فهو جيل القيمة والقوة الفاعلة الذي حقق معه المغرب الشيء الكثير، بل إن المغرب قد ضيع فرصة الاستفادة من قوة ذلك الفريق، على اعتبار أن حصيلة ما تحقق اليوم، هي دون الذي كانت تعده به إمكانات وقدرات تلك النخبة العاملة.

من هذا الجيل الوطني إذن، الذي كان يضم شخصيات متعددة المشارب والاتجاهات والتصورات، يستمد عبد الرحمن اليوسفي، وسائله وأغراضه وأدواته السياسية، فالرجل كما يقول الاتحاديون، يختزل مرحلة بكاملها من تاريخ المغرب، فهو السياسي العربي والحقوقي والزعيم المغربي الوحيد، الذي قام بمحاولة إصلاح للمشهد السياسي ببلادنا، وفي نفس الآن العمل على إصلاح دواليب السلطة والإدارة المغربية، وهو المشروع الذي لا يزال متواصلاً، من خلال القوانين التي صدرت عن قبة البرلمان، والنقاش المفتوح حول إعادة تنظيم آلية التدبير في الدولة وفي المجتمع من خلال المطالب الإصلاحية المرتبطة بالدستور، دون إسقاط، القوانين التي تلاحقت المصادقة عليها من قبل ممثلي الأمة، مثل مدونة الشغل ومدونة الأسرة وقانون الأحزاب الجديد وإلزامية التغطية الصحية للمغاربة وغيرها.

لقد وعى اليوسفي على أسرة ترعرعت في مدرسة سياسية وطنية، إنها "مدرسة الحركة الوطنية"، التي تركت للتاريخ واحدة من أجمل وأنبل التجارب النضالية، هي تجربة "ثورة الملك والشعب"، الثورة التي خط بها أحرار المغرب بزعامة الراحل محمد الخامس، معنى لنضال الدولة والشعب المغربيين، من أجل مطلبين فقط هما الحرية والاستقلال، وهما المطلبان اللذان تم تضمينهما في وثيقة 11 يناير 1944، التي تعتبر ميثاقاً بين الحركة الوطنية ومحمد الخامس، مما أثار حنق الإمبريالية التي كانت ممثلة في كل من فرنسا وإسبانيا ومهد للمواجهة التي قادت إلى اعتقالات وإعدامات ونفي، ثم عزل الملك الراحل محمد الخامس عن السلطة ونفيه إلى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر.

وثيقة الاستقلال

عبد الرحمن اليوسفي الذي شرع في سن مبكرة في الإعداد لتقديم وثيقة الاستقلال، بعد أن توزعت بلاده عقب مؤتمر الجزيرة الخضراء، بين كل من إسبانيا وفرنسا، فيما تم منح مدينة طنجة لتحالف دولي آنذاك يضم مجموعة من الدول الاستعمارية، اعتباراً للموقع الاستراتيجي الهام لميناء المدينة، المطل على مضيق جبل طارق.

وقبل أن ينتقل إلى الرباط ليتابع تعليمه بثانوية مولاي يوسف كتلميذ داخلي، عمل على تشكيل خلية نضالية كانت لها علاقة وتنسيق بخلية أخرى هي خلية المدرسة المولوية المحاذية، وهو ما جر على اليوسفي متاعب كثيرة ومطاردات من قبل السلطات الفرنسية الاستعمارية، كما هو حال رفيقه المناضل المهدي بنبركة.

وأثناء عملية البحث عنه لاعتقاله، التجأ اليوسفي، كما يروي أحد المتتبعين، إلى منزل شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، الذي يعتبر من رجالات السلفية المتنورين بالمغرب، قبل أن يغادره وظل يتنقل بين مدينتي آسفي ومراكش لمواصلة عمله النضالي، وذلك قبل أن يستقر بمدينة الدار البيضاء ليوجه في السر خلايا المقاومة، وخلايا العمل النقابي، خاصة بحي كوزيمار الصناعي بالحي المحمدي بالدارالبيضاء خلال العام 1949، وأيضاً ليؤسس لمدرسة الاتحاد الحرة، التي كانت واحدة من المدارس التي أسسها الوطنيون المغاربة لمواجهة التعليم النظامي الفرنسي، وكان منهاج التدريس في تلك المدارس الحرة، مسايراً للتطورات التي عرفتها الحركة العلمية والتربوية والتعليمية في العالم حينذاك، مما جعل أمر تحويلها إلى مدارس حكومية نظامية بعد الاستقلال أمراً يسيراً ومنتجاً، وقد كان اليوسفي مع رفاقه في حزب الاستقلال آنذاك، مثل الفقيه البصري والمهدي بنبركة وعلال الفاسي وأحمد بلافريج، من مهندسي هذا الاختيار الذكي، وهو الاختيار الذي تكامل مع اختيار وطني آخر، يتمثل في تأسيس العصبة المغربية لكرة القدم، التي تضم فرق الأحياء وهي النواة الأولى للبطولة الوطنية، ضداً على البطولة الفرنسية، ووضعوا لها قانونها التنظيمي بما يتوافق وقوانين الفيفا، وفي هذا السياق، تأسست فرق خالدة مثل فريقي الوداد والرجاء البيضاويين، وكذا فريق الاتحاد البيضاوي لكرة القدم الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1950 على يد عبدالرحمن اليوسفي نفسه، دون أن ننسى فريق مولودية بوطويل بالمدينة القديمة بالدار البيضاء الذي أسسه الشهيد محمد الزرقطوني، زعيم المقاومة الوطنية.

الوزير الأول

يمكن القول أن عبدالرحمن اليوسفي، قد غامر عندما قبل بالمشاركة على أرض ملغومة في الحكومة، وقد عزا البعض سبب مشاركته إلى وطنيته الصادقة التي تدفعه من أجل إنقاذ المغرب من "السكتة القلبية"، وكيف لا وهو الذي خاض صراعاً مريراً مع الحكم المركزي في سبيل مغرب يؤطره الحق والقانون والعدالة الاجتماعية.   

ولذلك كانت أول خطوة قام بها هي إقناع أعضاء الحزب بالانخراط في منظور التناوب التوافقي رغم المعارضة الشديدة لهذا الاتجاه لاسيما وأن تاريخ الحزب ظل مطبوعاً بالمواجهات بينه وبين المخزن طيلة الأربعة عقود الماضية.

ومن ثم كان اليوسفي هو أول معارض سياسي كبير في تاريخ المغرب الحديث، يقود حكومة مشروطة بوضعية سياسية انتقالية ومعقدة جعلت قطباً يسارياً يمارس الحكم والسلطة مع حلفائه إلى جانب الملك ضمن ميثاق مشترك غير مكتوب، ولأول مرة أيضاً يتم النهوض بإصلاح أجهزة الدولة عبر إخراج ترسانة جديدة من النصوص القانونية والتنظيمية، ويتم التراضي حول الخطوط التي ينبغي أن تتحرك ضمنها الحريات والحقوق بما فيها حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وتأسيس الأحزاب والجمعيات، مع الدعوة في كل وقت وحين إلى تخليق الحياة العامة والتقليص من صلاحيات بعض الأجهزة الإدارية للدولة مثل وزارة الداخلية وغيرها.

ويحسب لليوسفي قدرته على التحكم والسيطرة على عالم المتناقضات، ولذلك استطاع أن يسير بحكومة تضم إلى جانب وزراء اتحاديين ويساريين وزراء لهم انتماءات سياسية وآخرين يطلقون على أنفسهم وزراء السيادة ومن ضمنهم الراحل إدريس البصري الذي قال حين سأله صحفي فرنسي عن دلالات حكومة التناوب، "هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها التناوب، فقد قاد الاتحادي عبدالله إبراهيم حكومة تناوب"، ثم زاد قائلاً "سترى أن التناوب مع اليوسفي سيكون مختلفاً".

ولعله بسبب هذا الفهم حافظ إدريس البصري على علاقاته مع عبدالرحمن اليوسفي حتى بعد عزله عن أم الوزارات.

كما يحسب لليوسفي أنه أول من حرك دعوى قضائية ضد مجهول في ملف بن بركة، على إثر التصريحات التي صدرت عن العميل السابق في جهاز "الكاب واحد"، أحمد البخاري الذي اتهم المخابرات المغربية بالضلوع في مقتل الشهيد بن بركة وتذويب جثمانه في حامض "الأسيد" في معتقل دار المقري الرهيب.

الأسباب والخلفيات

بالرغم من أن البعض اعتبرها مجرد مناورة سياسية وحزبية حسب بعض الآراء، تكرر ما حصل في عام 1993 وتحمل دلالة الاحتجاج على وضع الأزمة والحاجة إلى تقوية إمكانات التحرك الذاتي، إلا أنها بالنظر للتوقيت الذي جاءت فيه، ولموقف القبول الذي اتخذه المكتب السياسي إزاءها، تمثل حدثاً له دلالته الخاصة التي تستدعي ضرورة إعادة قراءة الوضع السياسي والحزبي الراهن من جديد.

حيث استقال عبد الرحمن اليوسفي في 2003 وفاجأ الكثيرين، الذين اعتبروا أنه من الطبيعي أن يقدم الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي على تنحية نفسه في هذه المرحلة بالذات، والظاهر أن المكتب السياسي للحزب لم يكن من عداد المتفاجئين وهذا له دلالة أخرى تختلف من حيث الشكل والمضمون عن الأولى.

وأرجع أغلب قادة الأحزاب السياسية المغربية تنحي اليوسفي وقتها إلى الخلافات التي تنخر الحزب، واعتبروها السبب الرئيسي الكامن وراء هذا القرار، وقد اعتبر بعضهم أن الخلافات المتناسلة داخل الحزب منذ المؤتمر السادس كانت كافية وزيادة على دفعه إلى اتخاذ قراره، إلا أن الجميع اتفق أن استقالة اليوسفي كانت خسارة كبيرة للحقل السياسي بالمغرب.

واعتقد البعض الآخر أن استقالة عبد الرحمن اليوسفي، في هذا الظرف بالذات، تندرج بالأساس ضمن منطق محاولة لتبرئته من واقع سياسي مطبوع بالمكر السياسي، كما أرجع البعض الآخر أسبابها إلى صدمة تعيين وزير أول تكنوقراطي بعد انتخابات سبتمبر/أيلول 2002، والدليل على ذلك، أن اليوسفي دبج بعد تعيين إدريس جطو وزيراً أولاً رسالة ببلجيكا انتقد فيها العمل الديمقراطي بالمغرب وطالب من خلالها بنهاية وزراء السيادة وإلغاء الغرفة الثانية وإجراء تعديلات دستورية تقوي الوزير الأول (رئيس الحكومة) وتربط مسؤوليته بالأغلبية البرلمانية.

كما رأى آخرون أنه كان من الطبيعي أن يكون مآل عبد الرحمن اليوسفي هو اعتزال العمل السياسي في هذا الوقت بالذات، اعتباراً لكون مرحلة التناوب التوافقي قد وصلت نهايتها مع الانتقال السلس للسلطة والعودة إلى نهج القيادة التكنوقراطية بعد انتخابات سبتمبر/أيلول من العام 2002.

والحق أن اعتزال زعيم الاشتراكيين في المغرب، العمل السياسي جملة وتفصيلاً وكما أسر هو نفسه لعدد من مقربيه، كان يعود بالأساس إلى الحالة التي آل إليها الحزب وطبيعة النتائج المحققة وإلى تذمره من فشل سياسة التناوب التوافقي من خلال تعيين وزير تكنوقراطي.

رحيل اليوسفي

بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، رحل عن عالمنا هذا السياسي الكبي عن عمر ناهز 96 عاماً، وترك لنا

سيرة تختزل مرحلة كاملة من تاريخ المغرب.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالرحمن الأشعاري
كاتب وإعلامي وباحث مغربي
كاتب وإعلامي وباحث مغربي، متخصص في شؤون الإعلام والتنظيمات الإسلامية، مارس مهنة الصحافة والإعلام لمدة تزيد على الـ22 عاماً، اشتغل خلالها بالعديد من الصحف والمجلات، الورقية منها والإلكترونية، داخل وخارج المملكة المغربية، وتحديداً في دولة الإمارات العربية المتحدة
تحميل المزيد