على بُعد مترين يفصلان الرصيف عن عجلات إحدى سيارات الشرطة، يقف أربعة شياطين بلباسهم الشرطي الأزرق، وفي مشهدٍ دراميٍّ لا يحدث غالباً إلا في أفلام السينما الهوليوودية، يصرخ رجلٌ أسود البشرة مكبلاً بالأصفاد منكباً على وجهه ومستلقياً على الأرض: "لا أستطيع التنفس، أرجوك توقف"، بينما يضغط بقوةٍ أحد الشياطين بركبته على رقبته، ناظراً إلى الناس الذين يشاهدون ويتوسلون إليه كي يرحم آدميته المهدرة.
فلويد أو Floyd بالإنجليزية أمريكيٌّ من أصلٍ إفريقيٍّ، يبلغ من العمر 46 ربيعاً، لفظ آخر أنفاسه لاحقاً في أحد مستشفيات مينيابوليس، مينيسوتا، الولايات المتحدة، في 26 مايو/أيار 2020. قتل فلويد بدمٍ باردٍ في وطنه وبين أهله، على أرض الحريات المزعومة، وعلى مرأى ومسمعٍ من المواطنين أمثاله الذين صوَّروا صرخاته وتوسلاته إلى من كبَّلوه وأذاقوه جام عنصريتهم البيضاء دون أدنى رحمةٍ أو شفقةٍ لحقوقه كمواطنٍ مثلهم، أو حتى كإنسانٍ حرٍّ.
● حياةٌ سوداء مهمة
لقد أثار مقتل جورچ فلويد موجةً عارمةً من الغضب في المجتمع الأمريكي والعالم أجمع، وأعاد ذكريات مقتل "إريك غارنر"، مواطنه الذي سقط على أيدي رجال الشرطة في نيويورك عام 2014م، بينما كان يسير في شارع في جزيرة "ستاتن"، فاحتُجز في غرفةٍ خانقةٍ حتى وافته المنية. تلك الأحداث وغيرها لفتت انتباهنا مرةً أخرى كيف أن العنصرية لا موطن لها، وبصفته نعياً للأشخاص الذين فقدوا حياتهم بسبب العنصرية في الولايات المتحدة انتشر وسم عالميّ على مواقع التواصل باسم "Black Lives Matter"، يضم أسماء الضحايا الذين فُقدوا سابقاً، ويُندد بخطاب العنصرية الواقع على أصحاب البشرة السوداء.
بعدما تأزّمت الأمور تم طرد أربعة من ضباط شرطة المدينة المتورطين في الحادث، وجُرِّدوا من وظائفهم، بما في ذلك الشرطي الأساسي التي أظهرت المشاهد ضغط ركبته على رقبة فلويد وهو مستلقٍ على الأرض بلا حراك. وبعد أيامٍ من الفاجعة حدثت المفاجأة، فتصاعدت وتيرة الأحداث، وهرع المواطنون ليُعبِّروا عن ثورتهم وغضبهم على تلك الانتهاكات المتوالية في حق المواطنين السود، فتظاهروا في عدة أماكن في المدينة، بعد أن حاول رجال الشرطة التصدي لهم دون جدوى، إلى أن تمكنوا أخيراً من إشعال النيران في مبنى شرطة مينيابوليوس، فخرب المبنى بالكامل، وانتشرت الصور والفيديوهات في وسائل الإعلام، لتشفي بعض الغلّ الذي تأجَّج في الصدور.
والسؤال هنا: إلى متى ستستمر هذه الوحشية المقيتة ضد السود وغيرهم؟ متى سيتوقف هؤلاء عن النحيب بسبب العلاجات السيئة، والرِّق المُقنَّن، والعنف الأزلي، والسخرية، والإهانة من قِبل الأشراف البيض؟ إلى متى ستظل عمليات الحرمان من إقامة شعائرهم في بعض المساجد والكنائس ودخول المدارس والمطاعم وارتياد الأعمال والمشي بحريةٍ في أوطانهم؟ أتساءل حقيقةً: ما السبب الحقيقي وراء الكراهية تجاه الأفارقة؟ لونهم الأسود؟! أم أنهم يُنظر إليهم -كغيرهم من الأقليات حول العالم- كسلاحٍ دائمٍ يهدد وجود الرجل الأبيض ويقنن نفوذه المتوهم؟ هل ستظل حقوقهم وكبريائهم مقموعةً، وانتهاكها أمرٌ حتميٌّ لأنه لا صوت لهم؟ لكنها الحقيقة تدوي، لن يتوقف قتل الرجال السود الأقوياء، ولن تُرحم نسائهم الطامحات من الاغتصاب، ولن يتحرر أطفالُهم الأبرياء من القمع، لأن ذلك هو ما يريده ويعيش عليه وتُبنى عليه سياسته، تحديداً؛ الرجل الأبيض.
● حريتنا وحريتهم
إن إسلامنا وشريعتنا لا يلتفتان إلى الفوارق بين البشر، لا ينظران إلى النسب والعرق واللون والجاه والسلطان؛ فالناس كلهم لآدم، وآدم خلق من تراب، وإنما يكون التفاضل في الإسلام بين الناس بالإيمان والتقوى والعمل الصالح، والتعامل بالحسنى بين الناس، والعدل بينهم في الأعمال والمحاكمات والمعيشة وسائر نواميس الحياة، وذلك بفعل ما أمر به الله، واجتناب ما نهى عنه.
روى الترمذي (3270) عن ابن عمر: "أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)". صححه الألباني في "صحيح الترمذي".
وروى أحمد (22978) عَنْ أَبِي نَضْرَةَ: "حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟) قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". صححه الألباني في "الصحيحة" (6/199).
كما أن تفضيل العروبة التي أقرها الرسول وأخبر عنها الصحابة -الذين كان بينهم من ليس عربيّاً كسلمان ومقسم الفارسيين، وبلال بن رباح الحبشي وزنيرة الرومية وبركة الحبشية- أن الأصل فيها تفضيل جنسٍ وليس تفضيل أفراد، فالعجمي المؤمن التقي الصالح خيرٌ من العربي المقصر في حق الله تعالى. ولا يكون المسلم العربي في مقامٍ أفضل من المسلم الأعجمي لمجرد عربيته التي وُلد على أرضٍ تحمل لونها وتتكلم بلسانها، وإنما يتفاضلان بالتقوى والصلاح وعمل الخير بين الناس، فمن كان أتقى لله كان أفضل من صاحبه، ومن عمل سوءاً فلنفسه لا يضر الله لونه أو عرقه، سواء كان عربياً أو أعجمياً.
يبدو أنه لا ولن يفهم الرجل الأبيض أن رسالة الحب التي جلبها للعالم كذباً قد قامت في الأصل على أشلاء الملايين من الهنود الحمر، أصحاب الدار الأصليين، الذين قُتِّلوا وهُجِّروا واستُعبدوا في وطنهم الأم باسم الاكتشاف الأعظم والعالم الجديد، ولا تزال الآثار شاهدةً تحترق في قلوب إخوانهم الأفارقة. لن يعي الأبيض أبداً أن هؤلاء السود مثل غيرهم، يقاتلون من أجل أن يعيشوا حلمهم الإفريقي المسلوب، بعد أن أفرغ احتياطيهم وصادر مواردهم وأبقاهم في أكثر البيئات النائية سوءاً، وفي إفريقيا، بلادهم الأم، يُعطى هو قصوراً وقلاعاً للإقامة.
لن يعي كذلك التابعون المنبهرون به من أبناء شعوبنا العربية والإسلامية للأسف، أولئك العلمانيون المصابون بالتسطيح الفكري والتاريخي، الذين ينظرون للعالم بنظرة شعوب متقدمةٍ وأخرى ناميةٍ بناء على الأكثر تقدماً وتحرراً وابتعاداً عن قيود الدين وأحكامه، ويرون أن الرجعية والتخريب والجهل والإرهاب وسمٌ ملتصقٌ بالإسلام والمسلمين، متمسكين بالصورة الزائفة عن الديمقراطية والحرية المرتبطة في أذهانهم فقط بالدول الأوروبية والحريات المزعومة داخلها، لن يعوا أن العنصرية والظلم والعدوان وترويع الآمنين لا يرتبطون بمدى تفشي الحريات وتمدُّدها داخل هذه البلاد التي حرَّفها التاريخ. وإذا ما نظروا فيه مليّاً فسيرون في العدوان الإسرائيلي على فلسطين وجحيم الروس في البوسنة والهرسك ومجازر المسيحين في بورما واضطهاد المسلمين في الهند والصين، وغيرها من الاعتداء والظلم الواقع على بلاد المسلمين، وتدخلات الغرب الاستعمارية في بلدانهم، أنه كله خارجٌ من رحم تلك الشعوب وحرياتهم الكاذبة، والإسلام منه براء.
وأما نحن كشعوبٍ إسلاميةٍ وعربيةٍ فالتقدم والازدهار الفكري والإنساني أساسه نظامٌ عادلٌ مبنيٌّ على مركزيةٍ صحيحة تحترم الإنسان وتُكرمه، أعمِدته الحفاظ على الهوية التاريخية والدينية وعدم التملص من العقيدة والقيم الراسخة لنا، وليس بعلمنتها. ولذلك فالأخذ بأسباب النجاح والنهضة ينفصل رويداً عن قطار الاستعمار الاقتصادي والعلمي الناعم الذي يسير في المدن الأوروبية والأمريكية، والذي نشأ في الأصل على جثث وأشلاء ودماء ملايين البشر الذين سبقوهم وعاشوا على تلك الأرض وغيرها، وحاولوا على مدار السنين أن يرسّخوا عقائدهم البريئة وفكرهم النقي بشدةٍ في ضلوع المجتمعات الأخرى. وعلى الرغم من هذا، فقد استطاعت بعض دول شرق آسيا تحقيق التقدم الشامل الذي ظهر فيها خلال العقود الأخيرة، بعيداً عن السيطرة الأوروبية ونهجها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.