ما شهدناه يوم الثلاثاء الماضي 26 مايو/أيار 2020، يعيد إلى الأذهان أحداث عام 1968م عقب مقتل المناضل الأسود (مارتن لوثر كينغ) في مدينة ممفيس. فقد استدعت ولاية مينيسوتا الأمريكية الحرس الوطني لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة؛ لاستعادة الأمن بعد اتساع أعمال العنف ونطاق الاضطرابات في جميع المدن الأمريكية، خاصةً مسقط رأس (جورج فلويد)، الذي لقي مصرعه على يد شرطي أبيض، عقب انتشار فيديو لرجل شرطي أبيض يضع ركبته فوق عنقه، وهو يستغيث قبل أن يفارق الحياة وهو يجاهد لالتقاط الأنفاس.
ومنذ الثلاثاء الماضي الذي وقع فيه الحادث، تشهد مدينة مينيابوليس أعمال شغب واحتجاجات متواصلة، شملت إضرام النيران في عدد من المباني، وسط توقعات باشتداد حدة التوتر في الأيام القادمة. وقد وصل المتظاهرون، أمس السبت، رغم الحظر المفروض بسبب فيروس كورونا وزيادة أعداد الإصابات، إلى مبنى البيت الأبيض. وقد منعت الحراسة الشخصية للرئيس ترامب من الوصول إلى حرم البيت الأبيض. وغرد الرئيس ترامب بتغريدة أثارت حالة من الجدل باستخدام العنف، واستخدام النيران الحية ضد المتظاهرين، وقد حجبت "تويتر" التغريدة؛ لأنها تحتوي على العنف. وفي سياق الأحداث، عرضت محطة تلفزيون "كيه إس تي بي" المحلية الخميس الماضي، لقطات مصورة لعدد من المباني التي شبّت بها النيران ضمن تجمعات سكنية كثيرة.
ووسط هذا الغليان، أصدرت "إريكا ماكدونالد" التي تشغل منصب المدعي العام لولاية مينيسوتا، بياناً مشتركاً مع ضابط مكتب التحقيقات الاتحادي "إف بي آي"، يؤكد أن التحقيق في وفاة جورج فلويد "أولوية قصوى". وجاء في البيان أن "التحقيق الاتحادي سيحدد ما إذا كانت الأفعال التي ارتكبها ضباط شرطة مينيابوليس السابقون انتهكت القانون الاتحادي".
ورغم فصل الضباط الأربعة مباشرة من وظائفهم، فإن السؤال المطروح يدور حول ما إذا كان سيتم ملاحقتهم جنائياً، خاصةً الرجل الذي وضع ركبته على رقبة جورج فلويد جنائياً.
وقال مايك فريمان، مدعي مقاطعة هنيبين، أمام الصحفيين: "امنحونا الوقت كي ننجز المهمة على النحو الملائم، وسنحقق لكم العدالة. أعِدكم". وأقرّ الأخير بأن أسلوب الشرطي الذي ظهر بالفيديو كان "مريعاً"، وقال: "مهمتي أن أثبت أنه انتهك قانوناً جنائياً".
ولم يقتصر الأمر على جورج فلويد في مينيابوليس فحسب، بل هناك أيضاً ضحايا آخرون، من بينهم "بريانا تيلور" التي تعرضت لإطلاق نار بشقتها في لويزفيل بولاية كنتاكي، وذلك وفق ما أوردته رسالة وقَّع عليها رئيس اللجنة القضائية بمجلس النواب جيرولد نادلر وغيره من الأعضاء الديمقراطيين، وُجهت إلى وزير العدل "وليام بار"، بأنها ترجمة دقيقة لما قاله المناضل "مارتن لوثر كينغ"، الزعيم التاريخى للسود الأمريكيين، من أن "أعمال الشغب هي لغة غير المسموعين".
من هنا يصبح كفاح السود وغيرهم من غير المسموعين عملية مستمرة حتى ولو وصل أمريكي أسود لسدة الحكم في البيت الأبيض، وليقتدي سود أمريكا وكل المهمشين، بما قاله "مارتن لوثر كينغ" من أنه "ليس هناك شيء اسمه نضال لأجل حق صغير، أو ظرفي أو مؤقت، بل هناك النضال الدائم لأجل إنسان، خلقه الله حراً وعليه أن يعيش حراً وكريماً". حادث مقتل جورج يفتح ملف العدالة والمساواة والتفرقة العنصرية في جميع دول العالم، خاصةً في الشرق الأوسط. فمنذ واقعة السيدة "روزا باركس" في خمسينيات القرن الماضي، وهي سيدة أمريكية سوداء رفضت أن تترك مقعدها بحافلة كانت تركبها في طريقها إلى منزلها، كانت قوانين الولاية في ذلك الوقت تنص على أن يدفع السود ثمن التذكرة من الباب الأمامي وأن يصعدوا الحافلة من الباب الخلفي، وأن يجلسوا في المقاعد الخلفية. أما البيض فلهم المقاعد الأمامية، بل من حق السائق أن يأمر الركاب السود الجالسين بأن يتركوا مقاعدهم من أجل أن يجلس شخص أبيض.
ولكن في ذلك اليوم تعمدت باركس ألا تُخلي مقعدها لأحد الركاب البيض وأصرت على موقفها، رافضةً بكل بساطةٍ التخلى عن حقها في الجلوس على المقعد الذي اختارته. فقام السائق باستدعاء رجال الشرطة الذين ألقوا القبض عليها بتهمة مخالفة القانون. وكان للحادث أثر كبير في تأجيج مشاعر السود ضد الظلم والتمييز العنصري، فقاطع السود حافلات الركاب سنة كاملة؛ مما تسبب في خسارة الشركة.
ورُفعت القضية إلى أعلى هيئة دستورية بالولايات المتحدة، واستمرت المحاكمة 381 يوماً. وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها، الذي نصر موقف روزا باركس، وتغير وجه حركة الكفاح ضد العنصرية على أساس اللون. وفي نهاية عام 1956، صار من حق السود الجلوس بمكان واحد مع البيض وإعطاؤهم الحقوق نفسها في جميع القوانين. من هنا غيَّرت باركس حياة السود في أمريكا بصورة دراماتيكية، ويعتبر تحديها واحداً من أهم الخطوات التي قام بها مواطن أمريكي أسود من أجل الحصول على حقوق متساوية لما يتمتع به الأمريكيون البيض، من حرية التصويت والترشيح وكان محرماً على السود.
كانت الأوضاع تنذر بردّ فعل عنيف يمكن أن يفجّر أنهار الدماء لولا أن "مارتن لوثر كينغ" أخذ للمقاومة طريقاً آخر غير الدم. فنادى بمقاومة تعتمد مبدأ "اللاعنف" أو "المقاومة السلبية" على طريقة المناضل الهندي مهاتير غاندي، وكان يستشهد دائماً بقول السيد المسيح عليه السلام: "أحِبّ أعداءك واطلب الرحمة لمن يلعنونك، وادع الله لأولئك الذين يسيئون معاملتك". وكانت حملته إيذاناً ببدء حقبة جديدة في حياة الأمريكان ذوي الأصول الإفريقية. فكان النداء بمقاطعة لشركة الأتوبيسات امتدت عاماً كاملاً، أثر كثيراً على إيراداتها، حيث كان الأفارقة يمثلون 70% من ركاب خطوطها، هل مقتل جورج هذا الأسبوع سوف يفجر أحداث ستينيات القرن الماضي، من كفاح مارتن لوثر كينغ. ففي عام 1963، قام بثورة لم يسبق لها مثيل في قوتها، اشترك فيها 250 ألف شخص، منهم نحو 60 ألفاً من البيض، متجهةً صوب نصب "أبرهام لينكولن" التذكاري، فكانت أكبر مظاهرة في تاريخ الحقوق المدنية، وهنالك ألقى كينغ أروع خطبه: "إني أحلم"، والتي قال فيها: "إنني أحلم اليوم بأن أطفالي الأربعة سيعيشون يوماً في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم".
ووصف كينغ المتظاهرين كما لو كانوا قد اجتمعوا لاقتضاء دَين مستحق لهم، ولم تفِ أمريكا بسداده، "فبدلاً من أن تفي بشرفٍ بما تعهدت به، أعطت أمريكا الزنوج شيكاً بلا رصيد، شيكاً أعيد وقد كُتب عليه (إن الرصيد لا يكفي لصرفه)".
فدقَّت القلوب وارتجفت، بينما أبت نواقيس الحرية أن تدق بعد، فما أن مضت ثمانية عشر يوماً حتى صُعق مارتن لوثر كينغ وملايين غيره من الأمريكيين بحادث وحشي، إذ ألقيت قنبلة على الكنيسة المعمدانية التي كانت وقتذاك زاخرة بتلاميذ يوم الأحد من الزنوج؛ فهرع كينغ مرة أخرى إلى مدينة برمنغهام، وكان له الفضل في تفادي انفجار الأحداث.
في العام نفسه. أطلقت مجلة "تايم" على كينغ لقب "رجل العام"، فكان أول زنجي يُمنح هذا اللقب، ثم حصل في عام 1964 على جائزة "نوبل للسلام"؛ لدعوته إلى اللاعنف، فكان بذلك أصغر رجل في التاريخ يفوز بهذه الجائزة (35 عاماً). ولم يتوقف عن مناقشة قضايا الفقر للزنوج، وعمِل على الدعوة إلى إعادة توزيع الدخول بشكل عادل، إذ انتشرت البطالة بين الأفارقة، فضلاً عن الهزيمة السنوية التي يلقاها الأفارقة على أيدي مُحصلي الضرائب، والهزيمة الشهرية على أيدي شركة التمويل، والهزيمة الأسبوعية على أيدي الجزار والخباز، ثم الهزائم اليومية التي تتمثل في الحوائط المنهارة والأدوات الصحية الفاسدة والجرذان والحشرات!
وفي 14 فبراير/شباط عام 1968، اغتيلت أحلام مارتن لوثر كينغ ببندقية أحد المتعصبين البيض ويدعى "جيمس إرل راي"، وكان قبل موته يتأهب لقيادة مسيرة في ممفيس لتأييد إضراب "جامعي النفايات" الذي كاد يتفجر في مئة مدينة أمريكية.
وقد حُكم على القاتل بالسجن 99 عاماً، غير أن التحقيقات أشارت إلى احتمال كون الاغتيال كان مدبراً، وأن جيمس كان مجرد أداة.
إن حلم مارتن نجح وتحقق يوم انتخاب وفوز "باراك حسين أوباما" أول رجل من أصول إفريقية يتولى مقاليد الحكم.
رغم نجاح الأمريكيين السود في القضاء على العبودية والفصل العنصري، فإن مجتمعهم ما زال يعاني حتى اليوم من مظاهر متخلفة ومشاكل عديدة بالمعايير الأمريكية. وبعد نصف قرن على خطاب مارتن لوثر كينغ التاريخي "لدي حلم"، ما زالت الظروف المعيشية الصعبة للسود في أمريكا قائمة، والعنف ضد السود، وتُظهر بيانات نشرتها صحيفة "واشنطن بوست"، أنّ 1014 شخصاً أسود قُتلوا على يد الشرطة في عام 2019. وتبيّن عدّة دراسات أن الأمريكيين السود أكثر عرضة لأن يقعوا ضحايا للشرطة مقارنة بالأعراق الأخرى.
إلا أن تكرار حوادث المواجهات بين رجال الشرطة البيض في الأغلب الأعم، وشباب أسود وما ينتج عنها من أعمال عنف ومواجهات مختلفة سواء كانت الحادثة مقرها مدينة فيرجسون بولاية ميسوري بوسط أمريكا، أو بضاحية ستاتين أيلاند خارج مدينة نيويورك في الشمال الشرقي على سواحل الأطلنطي، أو في شرق مدينة لوس أنجلوس بقلب ولاية كاليفورنيا المطلة على المحيط الهادي، فقط تُذكِّرنا بأن الطريق ما زال طويلاً. ويعود طول الطريق لغياب أبسط قواعد "العدالة الاجتماعية" والمتمثلة في كيفية توزيع الدخل وتخصيص الموارد وإتاحة الفرص وسياسة منصفة للعقاب والثواب.
صحيح أنه لم يعد يُحرم السود من دخول المطاعم ودور السينما المخصصة للبيض، وصحيحٌ أنه أصبح منهم رؤساء مجالس إدارة شركات كبرى وأساتذة جامعيين وصحفيين لامعين، وأصبح منهم وزيران للخارجية ومستشارة للأمن القومي ورئيس للجمهورية. من هنا اعتقد بعض المهتمين بالشأن الأمريكي خطأً أن وصول "أوباما" لعرش البيت الأبيض عن طريق انتخابات حرة صوَّت فيها لصالحه ما يقرب من 42 مليون أمريكي أبيض أو ما يُعادل 72% من إجمالي الأصوات التي حصل عليها- يعد دليلاً كافياً لما وصل إليه المجتمع الأمريكي من نضج يتجاهل معه لون البشرة وخلفية الشخص، واعتبر البعض أن أمريكا تشهد مرحلة ما بعد العنصرية.
يصعب القول إن الأمريكي الأسود قد نال كل الحقوق والفرص المتاحة لنظيره الأبيض، نعم تحسنت ظروف معيشة السود بشكل عام، لكن الفوارق لا تزال قائمة وصارخة. وطبقاً لإحصاء عام 2014، بلغ عدد السود 42 مليون نسمة، أو نسبة 13% من إجمالي عدد السكان. وتبقى المشكلات الكبيرة للسود الأمريكيين ممثلة في عدة ظواهر مقلقة، من أبرزها الفقر، إذ يعيش 24.7% من السود تحت خط الفقر، وتبلغ هذه النسبة 12.7% على المستوى القومي الأمريكي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.