الحرية هي أسوأ كلمة سمعتها في حياتي، وقد سمعتها من طفولتي حتى عمري هذا، بل وقرأت وسمعت عنها حتى في أماكن وأزمان لا علاقة لي بها، في كتب التاريخ وفي كتب الفلسفة، في الجرائد وفي المجلات، في محطات المذياع والتلفاز، يذكر فيها أناس جهلاء، غافلين عما يتحدثون عنه، ويتبعون القطيع بأفواههم دون وعي، ربما ليصلوا إلى غاية مادية غير التي ينطقون بها.
نعم تلك كلمة "الحرية" التي ينشدها المواطن الثائر ضد الحكومة، ويرددها السياسي الطامع في السلطة، ويذكرها الفيلسوف السفسطائي لتجميل كتابته. إلا أنهم جميعاً لا يعرفون المعنى الحقيقي لتلك الكلمة، فالحرية بمعناها العام تعني تحرراً مطلقاً من شيء، أو من الآخرين، أو التحرر المطلق من أفكار الآخرين واتجاهاتهم، حيث يتصرف الفرد طبقاً لإرادته وطبيعته، وهي تمثل حكم الشخص لنفسه. فعندما نقول "حرية المرأة" فإنها تعني الحرية المطلقة للمرأة، تفعل المرأة ما تشاء في المجتمع ولا يقدر أحد على السيطرة عليها، تلك الجملة المركبة تملك خاصية لا يملكها حتى الملوك وحكام الدولة. وكذلك هي كلمة مبهمة، لا نعرف ما هو المطلوب من تلك الجملة؟ هل المراد منها تصرف المجتمع بشكل خامل عندما يأتي الأمر في تنظيم شؤون المرأة؟ هل نعني بها الحقوق المتساوية مع الرجل؟ هل نريد من تلك الجملة عدم تقيُّد المرأة بضوابط الدين والمجتمع.
كذلك عندما نقول "الشعب يريد الحرية"، فما هي تلك الكلمة؟ الحرية من ماذا؟ وإلى ماذا؟ نلاحظ أنه كلام تجريدي غير مفيد، يرددها الظالم والمظلوم، والطالح والفالح، والمجرم والبريء، لأن كلمة حرية لها تاريخ وسمعة وإيقاع في الآذان، فهي باتت تتناسل في ألسنة العامة.
لا أحد منا يريد الحرية بمعناها الحرفي، فهي مخيفة للغاية. هذه الكلمة تعني الاعتماد على النفس في كل الأمور التي نضع كلمة الحرية بعدها، وتعني الخروج من تنظيمات المجتمع إلى برية العشوائية التي لا هيئة لها ولا غاية، ومعناها أيضاً الانحراف عما هو حق معروف وطريقٌ مردوف الذي سلكه الأقدمون الحكماء.
ولو كان الناس يريدون فعلاً الحرية في حياتهم لما تخلَّقوا بأخلاق المجتمع، لأنه يقيد تصرفاتهم، وبالتالي حريتهم، ولَمَا انتسب الناس إلى عوائلهم وقبيلتهم وموطنهم لأنها تقيّد هويتهم وبالتالي حريتهم، ولَمَا التزموا بروتينهم اليومي، وما انضموا إلى الأحزاب والمنظمات الأخرى، ولا إلى المدارس والجامعات، ولا حتى اختاروا أن يسلكوا أي سبيل من سبل الحياة، لأن الاختيار لأي شيء هو تقيّد بسبيل واحد وترك السبل والبدائل الأخرى. لو كانت الحرية فعلاً أمراً حسناً للغاية فلماذا لا نرى القائد يعطي للجنود حريتهم فيما يفعلونه في ميادين المعركة؟ ولِمَ لا تُعطى للقاضي حريته في القضاء على المجرمين وإطلاق سراحهم؟ ولمَ لا تترك للأطفال حرية الأفعال والأقوال؟ ذلك لأن حرية الجنود تعني الفوضوية، وحرية الحاكم تعني إجرام المجرمين في المدينة، وحرية الأطفال تعني الفساد عند الكبر.
وإن كانت "الحرية" هي الكلمة المناسبة للتعبير عن تلك الأماني المضغوطة، فلماذا لا نرى حكام ورؤساء الدول يتحررون من مناصبهم، ولا نسمعهم يستخدمون تلك الكلمة بدلاً من الاستقالة؟ ولماذا لا نرى المسجون ينطق بتحرره عن المجتمع؟ ولماذا لا نرى الموظف يتحرر من وظيفته بدل فصله لأنها كلمة غير متجانسة مع وضعية البشرية، بالرغم من أن لها عواقب واقعية، فإنها كلمة إنسانية لا أساس لها في الطبيعة؟
الحرية هي كلمة جميلة، يمكن أن تُزين بها السطور واللافتات، ولكن لا تتوقع أبداً أن يأتي ما يُرتجى منها لأنها ليست سوى كلمة تجريدية، وُضعت لكي تُحفّز المشاعر من دون إحداث تغييرات واقعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.