فيروس كورونا.. كيف نصبِر على ما لم نُحِط به خُبراً؟

عدد القراءات
1,017
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/28 الساعة 09:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/28 الساعة 09:26 بتوقيت غرينتش

يعيش العالم اليوم هجمةً شرسةً شاملةً يشنّها وباء "كورونا" في مختلف بقاع العالم، حيث سبّب انتشاره خوفاً وفزعاً كبيراً، غير آبهٍ بالحدود والسدود، فغزا قارّات بعظمتها، ودُولاً على اختلاف أطيافها، وأصبح يشكل خطراً رهيباً على البشرية جمعاء، والتي باتت عاجزة أمام سرعة انتشاره وقوة فتكه، فيروس لا يكاد يساوي مثقال ذرة، أرهب الملوك بعروشها وأخضع الجبابرة وأعجز العقول. كل هذا يضعنا أمام حقيقة الإنسان الذي بطبعه يتسم بالضعف وقلة الحيلة، كما يجعلنا نقف عاجزين أمام حكم الله في سننه وقوانينه التي وضعها في كونه الفسيح المترامي الأطراف. 

وهنا قد يطرح الإنسان أسئلة تحير عقله، وتربك معتقداته أمام هذه الأحداث التي قد تغيّر مجرى الحياة على الكرة الأرضية، فيتساءل: ما سبب وجود هذا الشر؟ أين الحكمة؟ أين الرّحمة؟ لماذا يحدث كل هذا؟

نحن كمؤمنين بالله نعلم يقيناً أن كلّ ما يحصل في الكون هو بتقدير الله وتدبيره -سبحانه وتعالى- لقوله في كتابه الكريم: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" {القمر: 49}، وقوله أيضاً: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذلكَ على اللّه يَسِير" {الحديد: 22}.

ولعلّ أفضل ما يجسّد عجز الإنسان أمام حكمة الله وقدره هي قصة عظيمة، غنية بالدروس والِعبر، ذُكرت في القرآن الكريم في سورة الكهف، وهي قصة سيدنا موسى -عليه السلام- مع العبد الصالح "الخَضر"، حيث يمثل موسى الإنسان بجبلته البشرية وعقله القاصر أمام حكمة الله المتمثلة في أفعال الخَضر الذي لم يكن إلا تجسيداً للقدر الناطق أو المتكلم.

فهلُمّ نركب معاً قارباً نُبحر به في أعماق القصة لنتفكر في أحداثها، ونتدبر معانيها، ونغوص في أسرارها من زاوية مختلفة، ونحاول أن نسقطها على ما نراه اليوم من أخبار وأحداث حول جائحة اجتاحت العالم بأسره بطلها فيروس "كورونا"، علّنا نستخلص العبرة ونقطف من طيب ثمار أحداثها ونرتشف من رحيق روائعها، لترشدنا إلى برّ الأمان حيث الإيمان القوي واليقين الصادق. فقصص القرآن ليست لمجرد الحكاية والسرد فقط، إنما هي دروسٌ وعِبر لمن يعتبر، صالحة لكلّ زمان ومكان، كما قال سبحانه: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" {يوسف: 111}.

عند قراءتك لآيات القصة يظهر جليّاً أن السبب وراء حدوثها هو غرور الإنسان وتكبره في الأرض، حيث عتب الله على سيدنا موسى حين تكبّر واغترّ بعلمه، حيث ظن أن ليس هناك من هو أعلم منه في الأرض، فكان جواب الله أن أوحى إليه عبداً من عباده أعلم منه وهو "الخَضر". كما رُوي عن الرّسول -صلى الله عليه وسلّم- في قوله: "قَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ خَطِيباً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فقال: أنا أَعلَمُ. قال: فَعَتَبَ اللّه عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ؛ فَأَوْحَى اللّه إِلَيْهِ أَنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ" (رواه البخاري). فسرعان ما أدرك موسى خطأه وتاب عن فعله، ثم تاقت نفسه أن يلتقي العبد الصالح ليستفيد من حكمه ويطلع على علمه المخفي.

فكما هو معلوم في القصة، التقى سيّدنا موسى "الخَضر" عند مجمع البحرين، فرافقه في رحلة غريبة الأطوار، فريدة من نوعها في طلب العلم، وكلّه شوق وحماس في أن يتعلم منه ما لم يُحِط به خُبراً. ذكرت القصة ثلاثة مشاهد لأفعال الخَضر هي: خرق السفينة، وقتل الغلام، ثم هدم الجدار وبناؤه مرة أخرى، فما كان من موسى -عليه السلام- إلا أن يتنكّر لأفعاله المتناقضة مع فطرة الإنسان والتي لن يقبلها أي إنسان عاقل، فردّ عليه الخضر بتفسيرات الأحداث الثلاثة التي تبين حكمة الله الخفية في كل حدث، والتي خفيت عن موسى لعدم استيعاب عقله البشري للحكم التي جعلها الله في أفعاله. 

ليتبيّن لسيدنا موسى بعد ذلك الحكمة وراء أفعال سيدنا الخَضر، فأما خرقُ السفينة فكان لصالح أصحابها، حيث جنّبهم طغيانَ وظلمِ الملك الذي يأخذ السّفن غصباً من أصحابها. وأما قتلُ الغلام فكان لحكمة بالغة من الله -عز وجل- وما كان من الخضر إلا أن نفّذ ما أوحى الله إليه، فقتل الغلام كان خشية طغيانه وعناده وعقوقه لوالديه، وذلك ليبدلهما بغلامٍ صالحٍ خير منه. وأما الجدار فكان قد دُفن تحته كنز ليتيمين كان أبوهما مؤمناً صالحاً، فأراد الله أن يرزقهما حين يبلغا أشدّهما.

فالقصة إذن تتعلق بعلم غامض أشد الغموض، ليس كعلمنا القائم على الأسباب ولا كعلم الأنبياء القائم على الوحي، علم بيننا وبينه حُجب وغيوم كثيفة تمنعنا من الرؤية الواضحة، هو علم القدر الأعلى، علم الله المسبق، إن فهم أقدار الله أكبر من إمكانيات وقدرات العقل البشري، حيث تظل طبيعة العقل عاجزة وقاصرة أمامها، فعقلنا لن يتمكن من رؤية الصورة الكاملة لكل ما يحدث.

نستخلص من المشاهد الثلاثة للقصة أن للقدر ثلاثة تجليات: قد يكون ظاهر القدر شرّاً فيجعل الله فيه خيراً كامناً في ثناياه قد تعرفه بعد أن تنكشف المحنة. وقد يكون أيضاً ظاهره شرّاً لكنّ عقل الإنسان القاصر لن يكشف أسراره وحكمة الله منه. وقد يكون شرّاً يصرفه الله بعيداً عن إدراك الإنسان دون أن يعلم كيف ومتى ولماذا.

ولعل أفضل مثال يجب أن نتأمل فيه اليوم هو "جائحة كورونا"، فإيماننا بالله يستوجب منا الخضوع والاستسلام لأفعاله وحكمه في الكون، فالله لا يفعل شيئاً عبثاً في الحياة، وإنما كل شيء يحدث بتقديره وتدبيره سبحانه وتعالى، ويقيننا به يجعلنا نؤمن بالقدر خيره وشره وأن لله لطفاً خفياً وراء كل الأحداث التي تجري في آياته الكونية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ياسين برقاد
مدون إلكتروني مغربي
مدوّن إلكتروني مغربي، حاصل على دبلوم الهندسة في علوم الحاسوب، ومؤسس مركز لتعليم المعلوميات واللغات الحية.
تحميل المزيد