في الأسبوع نفسه الذي احتفل فيه نشطاء الحقوق المدنية بالذكرى السنوية للقرار الذي اتخذته المحكمة الأمريكية العليا في قضية "براون ضد مجلس التعليم"، شهدت الولايات المتحدة حدثاً بارزاً آخر هو وفاة قرابة 100 ألف أمريكي بسبب فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19). وتشير البيانات الأولية إلى أنَّ الأمريكيين السود يُشكِّلون عدداً غير متناسب من الضحايا. فبعد 66 عاماً على إلغاء براون مبدأ "فصل لكن تساوٍ" -واضِعاً الأساس لحصول الأمريكيين السود على فرص متساوية مع ذوي البشرة البيضاء للوصول إلى خدمات تعليمية ورعاية صحية وإسكان أفضل- عرَّت هذه الجائحة واقعاً قاسياً: لا تزال البلاد تشهد فصلاً بين البيض والسود ولا تزال المساواة تغيب فيها.
توفي 20 ألف أمريكي أسود على الأقل من جرَّاء الفيروس. ووفقاً للبيانات الحديثة التي جمعها مختبر APM للأبحاث، يزيد معدل وفاتهم بمرتين ونصف تقريباً عن ذوي البشرة البيضاء، ولم يقلّ أبداً عن ضعفي معدل اللاتينيين والآسيويين. وعلى الرغم من أنَّهم يُمثِّلون 13% من سكان البلاد، فإنَّهم يُشكِّلون 25% من وفيات كوفيد 19.
حمَّلت إدارة ترامب معظم المسؤولية عن تلك التباينات للضحايا أنفسهم. فأطلق المسؤولون العموميون التكهنات حول عادات الضحايا في التدخين وتناول الكحوليات، وأبدوا تلميحات بشأن أنظمتهم الغذائية واختياراتهم المتعلقة بنمط الحياة. مع ذلك، لم يكن هناك أي تفكير في الظروف الكامنة بالنظام الطبقي العِرقي الأمريكي المتجذر بشدة في تراب ذلك البلد.
وفي حين أرسى براون أسس إلغاء الفصل في الولايات المتحدة، بُنيَت هذه البلاد على أساسٍ أكثر ترسخاً بكثير يتمثل في تفوق ذوي البشرة البيضاء (أو سيادة البِيِض). إذ جرى اعتبار الأمريكيين الأفارقة ممتلكاتٍ تُملَّك طيلة فترة أطول من تلك التي اعتُبِروا خلالها مواطنين. وجرى انتزاع ثرواتنا ومواردنا طيلة فترة أطول من تلك التي صار بإمكاننا خلالها تحقيق الثروات والموارد أو الحفاظ عليها. واستمرت الممارسة العلنية المتعمدة لفكرة سيادة البِيض طيلة فترة أطول من تلك التي كانت ممارستها فيها أمراً غير مقصود وخفياً، أو فترة أطول من تلك التي جرى الحديث عنها في الدوائر الأكاديمية باعتبارها اعتداءات صغيرة وامتيازات عِرقية. لقد مرت 66 سنة منذ أكَّدت أعلى محكمة في البلاد أنَّ الفصل بين ذوي البشرة السوداء والبيضاء في المدارس العامة يمثل عدم مساواة بطبيعته، ومرَّت 400 سنة على أمريكا ثبُت فيها أنَّ تأكيداتها على الحرية والمساواة مجرد كلمات فقط.
إذ أدَّت قرون من سيادة البِيض إلى عدم حصول العمال السود والبيض على نفس الأجور، أو شراء نفس أنواع المنازل، أو التحصُّل على نفس المدخرات لتوريثها لأبنائهم. وأدَّت إلى الأعمال العنصرية الخاصة، والعنصرية التي تكافئ عليها الحكومية، وهما في كثير من الأحيان مترادفان. وأدَّت إلى إمكانية أقل للوصول إلى المدارس العامة ذات الجودة، أو التعليم العالي، أو الوظائف ذات الرواتب الأعلى التي تتطلَّب درجاتٍ علمية مكلفة ومتقدمة. وأدَّت إلى وجود محلات بقالة أكثر في الأحياء الحضرية البيضاء المُوسِرة، وخدمات رعاية صحية أقل لذوي البشرى السوداء والمحرومين. وأدَّت إلى اعتماد الأمريكيين السود بصورة أكبر على وسائل النقل العامة، وأن يكونوا أقل قدرة على العمل من المنازل، وأن يكونوا أكثر تواجداً في الوظائف "الأساسية". وأدَّت إلى كونهم أكثر عُرضة للإصابة بكوفيد 19. وأدَّت إلى 20 ألف حالة وفاة.
إنَّ معدلات الوفاة غير المتناسبة في بعض الولايات مذهلة، مع وجود فوارق كبيرة واضحة في كامل الخريطة. ففي العاصمة واشنطن، يُشكِّل ذوو البشرة السوداء 44% من السكان، لكنَّهم مع ذلك يُمثِّلون 80% من وفيات فيروس كورونا. وفي ولاية ساوث كارولينا، يُشكِّلون 27% من السكان و56% من الوفيات. ويُشكِّل ذوو البشرة السوداء في ولايتي ميشيغان وميزوري على التوالي 14% و11% من السكان و42% و39% من وفيات كوفيد 19.
وهناك ضرورة لإجراء مزيد من الدراسات لتحديد السبب الدقيق لتلك التباينات. وعلى أبحاث الصحة العامة أن تُقيِّم الأسباب التي قد تجعل الأمراض المُصاحِبة، مثل ارتفاع ضغط الدم، أكثر انتشاراً بين الأمريكيين السود من المجموعات السكانية الأخرى، وأيضاً أن تتجاوز الافتراضات النمطية السابقة.
مع ذلك، يتمثَّل التقييم الأصعب في ما يجب أن يتم في المستقبل، بعدما تنحسر أسوأ الحالات وتضعف الجائحة. لابد أن يكون هناك التزام بعدم عودة الأمور إلى طبيعتها من خلال الاستمرار في كون العمال السود قرابين للحريات الأمريكية البيضاء والمُتربِّحين من الشركات.
وفي السنوات الـ66 القادمة، يتطلَّب الوفاء بوعود براون منا إعادة تصوُّر هياكلنا الاجتماعية وإعادة التفكير فيها. وإعادة النظر هذه تتطلَّب التخلص من الفردية الراسخة التي سمحت لمُلَّاك الأراضي البِيض بمساواة المعاناة البشرية مع حقوقهم في الاستعباد. ولابد أن يقف هذا في وجه ثقافة تسمح لليبراليين البِيض بالادعاء بأنَّهم يؤيدون إدماج الأحياء ذات الفرص الكبيرة في حين أنَّهم يقاتلون بقوة لمنعها حين تقترب منهم. ويتطلَّب الأمر إنهاء الهوس الشديد بأرباح الشركات التي تدفع عدداً لا متناسب من ذوي البشرة السوداء إلى حتفهم بصورة أسرع، سواء في المخازن الخطرة أثناء جائحة، أو الوظائف المؤقتة منخفضة الراتب التي تفتقر إلى المزايا الصحية والإجازات المدفوعة والإجازات المرضية. ويتطلَّب الأمر من الحكومات أن تُوفِّر شبكات أمان ملائمة للخدمات الاجتماعية.
والأهم من ذلك أنَّه يتطلَّب كفاحاً؛ لأنَّ أيَّاً من ذلك لن يحدث دون كفاح. وفي حين تنهب إدارة ترامب والمشرعون الجمهوريون خزينة البلاد لتقديم حِزم الإنقاذ للبنوك والشركات، تطالب حكومات الولايات المُحافِظة وناخبوها اليمينيون بصورة مسعورة بأن "يُعاد فتح" البلاد. وقد تخلى المُحافِظون بسهولة عن التزامهم طويل الأمد بموقفهم الشفهي المناهض للإجهاض –تماماً كما هو الحال مع الالتزامات الخاصة بالديمقراطية والمساواة منذ تأسيس البلاد- لصالح الملاءمة الفردية (كل شخص يفعل ما يلائمه). ولم يبذل قادة الشركات والجناح الليبرالي لنظام الحزبين إلا القليل نسبياً لمنع هذا.
إنَّ مخاوف القرن الحادي والعشرين المتعلقة بالاستطباق والتهجير تتسبب في تعقيد سردية الدمج العِرقي، فالسكان ذوو البشرة الملونة في مدينة نيويورك، على سبيل المثال، أكَّدوا أنَّ إمكانية الحصول المتكافئ على الفرص هو الشيء الأهم بالنسبة لهم، بصرف النظر عن التركيبة العِرقية لأحيائهم. مع ذلك، أوضح كوفيد 19 ترسُّخ النظام الطبقي العِرقي الأمريكي. وبعد أجيال من براون، لا يزال انعدام المساواة هو إلى حد كبير السائد في هذه البلاد. لكن لا تزال الفرصة قائمة لخلق سابقة أخرى.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.