عرفت مصر تأسيس النقابات المهنية منذ عام 1912، عندما تأسست نقابة المحامين المصرية، لكن ذروة التأسيس النقابي تأخرت بعد ذلك إلى الأربعينيات عندما تأسست نقابات الصحفيين والأطباء والصيادلة. لم تتمتع تلك النقابات بالوقت والاستقلال اللازمين لتحصيل الخبرات النقابية وإنضاج تجربتها بالممارسة والتلاقح مع تجارب بلدان أخرى، إذ إن عشر سنوات فحسب كانت تفصلها عن عملية تأميم واسعة قام بها النظام الناصري. بدأ الصدام مبكراً مع نقابة المحامين في أزمة 1954 الشهيرة، التي انتهت إلى حل النقابة وتعيين لجنة مؤقتة لإدارتها، وهو الحل الذي لن يكف النظام عن تكراره في كل صدام مع النقابات المهنية.
وبلغ تأميم النقابات ذروته بقوانين عامي 1963 و1964، التي اشترطت فيمن يترشح للنقابات المهنية أن يكون عضواً في الاتحاد الاشتراكي. منذ ذلك الوقت، استقر في الوعي النقابي المصري مفهوم للنقابة يجعلها أقرب ما يكون إلى ذراع حكومي يعمل على تنظيم المهنة، أي مؤسسة بيروقراطية لإصدار تصريحات المزاولة.
شهدت الحقبة الساداتية صدامات متكررة بين الرئيس السادات ونقابتي الصحفيين والمحامين، لكنها كانت أقرب إلى صدام بين بيروقراطية نقابية تأسست في الحقبة الناصرية وبين بيروقراطية ساداتية جديدة تحاول اختراق النقابات وتسييسها في الاتجاه العكسي. وربما تكون النتيجة الأهم لتلك الحقبة هي نفي اليسار المستقل نهائياً من النقابات المهنية التي بقيت تتأرجح بين أرستقراطية نقابية تشكلت في الحقبة الناصرية وأرستقراطية نقابية تشكلت في الحقبة الساداتية.
النضال النقابي للجناح الديمقراطي في الإخوان المسلمين
في عام 1984، اتخذ الإخوان المسلمين في مصر قراراً تاريخياً بالمشاركة في الانتخابات النقابية تحت ضغوط الجناح الطلابي/المهني بقيادة عبدالمنعم أبو الفتوح. وبين عام 1984 و1988، برزت أسماء أعضاء ذلك الجناح وحلفائهم الإسلاميين في النقابات المهنية؛ عبدالمنعم أبو الفتوح وعصام العريان وحلمي الجزار وأنور شحاتة في الأطباء، وعبدالستار المليجي في العلميين، وأبو العلا ماضي في المهندسين، ومختار نوح وجمال تاج ومنتصر الزيات في المحامين.
يمكننا اعتبار الفترة الممتدة بين 1985 و1990، وفق ذلك العهد الذهبي للنضال النقابي الديمقراطي ضد السلطة بقيادة الجناح الديمقراطي في الإخوان المسلمين. وقد انتهت تلك الحقبة بالمؤتمر التاريخي للنقابات المهنية في نقابة الأطباء عام 1990، الذي طرح عدداً من المطالب الديمقراطية على النظام كإلغاء قانون الطوارئ، ورفع القيود عن الصحافة، ووضع ضمانات لنزاهة الانتخابات، وتخلي الرئيس مبارك عن رئاسة الحزب الوطني.
واجه النظام ذلك التحرك النقابي بحساسية وعنف شديدين، فطالت الاعتقالات عدداً كبيراً من النشطاء والمحامين، كما تم فرض الحراسة على عدد من النقابات؛ فرضت الحراسة على نقابة المهندسين عام 1994، وعلى نقابة المحامين عام 1995. قبل ذلك، وفي عام 1993، صدر القانون رقم 100 الذي أطلق عليه النظام "قانون الضمانات الديمقراطية للنقابات المهنية" بهدف "القضاء على ديكتاتورية الأقلية". عمل هذا القانون على إفساد قدرة النقابات المهنية على تنظيم انتخابات حيث اشترط لصحة الانتخابات أن يشارك فيها نصف أعضاء الجمعية العمومية للنقابة على الأقل (لم تكن الانتخابات العامة في مصر تقارب حتى تلك النسبة آنذاك)، لكنه منع في الوقت نفسه إقامتها في أيام العطلات الرسمية، أي أنه قرر عملياً استحالة انعقاد انتخابات صحيحة في النقابات.
تبع ذلك تطوران أساسيان في النضال الإخواني في النقابات: الأول تمثل في إقصاء الجناح الطلابي/المهني داخل الإخوان المسلمين، وهو الجناح الذي قاد هذا النضال، ولم يبقَ تقريباً داخل الجماعة أحد من أصحاب الأسماء البارزة في النقابات سوى كوادر نقابة الأطباء. أما التطور الثاني فتمثل في انعقاد تسوية صامتة بين الجماعة والنظام تقتضي ألا ينافس الإخوان على مقعد النقيب العام في أي نقابة، وأن يقتصر عملهم في النقابات على الأعمال الخدمية دون الدخول في أي صدام مع الدولة.
ظل سيف الحراسة مع ذلك مسلطاً فوق رقاب النقابات المهنية، حيث إن أي اختراق لتلك الصفقة، وهو ما كان يحدث أحياناً تحت ضغط التطورات في القضية الفلسطينية منذ الانتفاضة الثانية، كان يواجه بالتهديد بفرض الحراسة على النقابة وتصفية أي وجود مستقل عامة، وإخواني خاصة، داخلها.
نكسة 2014 ونكبة 2016
خاض الأطباء عدداً من الإضرابات منذ 2008، كان أشدها وآخرها هو إضراب 2014 الذي قررته النقابة في فبراير/شباط 2014، احتجاجاً على إقرار قانون 14 للكوادر الطبية الذي رأت النقابة أنه يفرغ قانون الكادر الطبي الذي أقره مجلس الشورى المنحل من مضمونه. لم يتجرأ أحد آنذاك بالطبع على التصريح بأن 30 يونيو/حزيران كانت أولى الخطوات في القضاء على منجزات 2011. استمر الإضراب لمدة شهرين لكنه كان إضراباً فاشلاً من الناحية العملية لأنه إضراب جزئي، ويعني الإضراب الجزئي أن المريض عندما يذهب إلى المستشفى يجد الطبيب موجوداً في المستشفى لكنه يحجم عن تقديم بعض الخدمات غير الطارئة؛ أي أن أغلب المرضى لا يستشعرون فعلياً وجود إضراب.
كان مجلس النقابة يدرك ذلك، ويدرك في نفس الوقت عجزه عن أخذ قرار الإضراب الكلي بسبب الضغوط السياسية العنيفة عليه من جهة، وضعف استجابة شريحة واسعة من الأطباء، خاصة من كبار السن، عن الإضراب، وانتهى الأمر إلى استقالة دكتور منى مينا التي تزعمت حركة استقلال النقابة وفض الإضراب بعد شهرين بناء على مكاسب جزئية في المفاوضات مع الحكومة.
كان العجز عن التصعيد إلى الإضراب الكلي في 2014، والصدام الجذري مع الأطباء الكبار الرافضين للإضراب هو إعلان نزع أنياب أسود الاستقلال وتحولهم إلى أسود هتم كأسود الإخوان في النقابة قبل ثورة يناير. وفي المجمل، قرر زعماء الاستقلال القبول بالتسوية الصامتة التي قبلها خصومهم الإخوان من قبل.
شهد عام 2016 فصلاً جديداً من انهيار النضال النقابي في مصر بعد تفويت آخر فرصة لخوض المعركة مع النظام بعد أزمة اعتداء أفراد من الشرطة على أطباء مستشفى المطرية التعليمي. ففي فبراير/شباط، انعقدت جمعية عمومية مهيبة، وبينما كانت حشود من آلاف الأطباء الشباب تنتظر قراراً جذرياً كالإضراب الكلي والمسيرة الجماعية إلى رئاسة الوزراء، أحبط النقيب العام الدكتور حسين خيري القرار، واتخذ خطوات شكلية في مضمونها. كان ذلك الفصل قاتلاً لأنه أدى عملياً إلى انفضاض الأطباء الشباب عن القيادة النقابية الجديدة لإدراكهم قبولها بالتسوية الصامتة إياها.
كان حسين خيري يخشى الحراسة، وربما الاعتقال الذي صرح أحد أعضاء مجلس النقابة حالياً بأنهم يخشونه حال قرروا الإضراب. ولم يكن خيري ملحمياً بما يكفي لخوض معركة بطولية أخيرة بغض النظر عن نتائجها.
لماذا نفشل؟
لا ينبغي أن يتوجه الأطباء سريعاً إلى لوم النخب النقابية متناسين أن ما يحدث نتاج تاريخ طويل من تجريف الوعي السياسي الذي لم ينجُ منه الأطباء بالطبع الذين تنتجهم المنظومة الأيديولوجية نفسها التي تنتج غيرهم من المصريين. .
يجعل ذلك من التأكيد على مركزية السياسي وعدم فصله عن المهني والاقتصادي أساس أي نضال جاد في أي حقل في مصر. كما يأخذنا هذا مباشرة إلى أزمة انحطاط النخب السياسية المصرية. عانت مصر من التجريف السياسي ليس على الصعيد الأيديولوجي فحسب، وإنما على صعيد التجربة السياسية نفسها، فما من فرصة للتمرس في السياسة في مصر، مما يجعل النخب السياسية المصرية وليدة تجارب مبتسرة كتجارب العمل الطلابي. تخرج تلك التجارب نخباً تجمع بين الصوت العالي وبين الوعي السياسي المضمحل والكفاءة المتواضعة.
أولى خصائص تلك النخب هي فصلها بين السياسي والمهني؛ الأمر الذي جعل تلك النخب تتهم الإخوان بتسييس النقابة تماماً كنظام مبارك وغيره، رغم أن المطلوب بالذات هو تسييس النقابات لأن النقابات في جانب منها هي مؤسسات سياسية. لا يعني ذلك أن الممارسة النقابية الإخوانية لم تكن تستحق النقد، ولكن موضوع النقد لم يكن من المفترض أن يكون هو التسييس، وإنما اتجاه التسييس وأهدافه.
تلك بعض ملامح أزمة نقابة الأطباء اليوم، وهي جزء من الأزمة النقابية المهنية العامة في مصر، ثم هي جزء من المشهد السياسي الأوسع في مصر، بحيث إن كثيراً من التحليلات الواردة هنا لتلك الأزمة يمكن تطبيقها على ذلك المشهد العام دون كبير عناء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.