أن تكون طبيباً في مصر!

عدد القراءات
19,990
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/25 الساعة 14:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/25 الساعة 14:26 بتوقيت غرينتش

اليوم عيد، ويحتاج الواحد منا أن ينفصل عن الواقع ولو يومين، خصوصاً إن كان عيده محفوفاً بالعمل المجهد قبله، أو بامتحانات وأبحاث بعده، لكن الواقع لا يريد أن ينفصل عنا ليومين، ومرارته تعكّر علينا سكّر الكعك، وبينما تشكو الأسَر من بقائها في البيوت دون خروج، كاملة العدد، توجد أسرٌ أخرى ينقص عددها في ذلك اليوم، وهي لا تريد الخروج ولا يحزنون، وإنما تريد فقط أن تحتفل بالعيد في هدوء وأن يعود الرجل من المستشفى سالماً من العدوى، لكن ذلك الحلم البسيط لم يتحقق للأسف، مات الطبيب الشاب وليد يحيى بينما تنتظره زوجته وابنه، فكان من عدم المروءة أن نكمل عيدنا في صمت، ولو لن يحرك الكلام شيئاً، فعزاؤنا أننا صرخنا.

حين بدأ التاريخ، وقالت الدنيا "بسم الله"، كان الطبيب المصري يعالج الناس، ويبتكر الأدوية، ويختبر العلاجات، ويقدم الوصفات، كان متفانياً منذ خلق الله المصريين في الأرض، ومنذ ذلك الحين، وهو هو، "شاطر" جداً، متفوق أكثر من غيره، وليس في ذلك قومية ولا عصبية، وإنما مجرد نقلٍ لواقع وشهادات الآخرين، فأينما شعرتَ بالتعب، ستجدُ فوق رأسك طبيباً مصرياً وضع الله في يديه الشفاء. واسأل الآخرين أيضاً.

وأنا في الغربة، في عِزّ البعد، أبحث عندما أمرض عن طبيب مصري، أكلم صديق أبي من بُعد، فيتنبأ -بقدرة قادر- ويكتب لي العلاج، لأن وصفة الأطباء الأجانب الذين عاينوني لم ترِحني ومرضتُ أكثر. وفي كل بلدٍ منا ولد، مثلي، سيخبرك عنا، وعن رجالنا في كل مكان، وهم في كل مكانٍ لا في مصر وحدها، تارةً لأن خيرنا على الدنيا، وتارةً لأن "خير بلادنا مهوش في إيدنا".

المهم، أن تكون طبيباً في مصر، هو ثاني أصعب مهنةٍ بعد أن تكون مواطناً فيها، البلدُ جميلة وخيرها يكفي لإطعام الأرض كل يومٍ ثلاث مرات، لكنه لا يطعم أبناءها. يجتهد الفتى في نظامٍ تعليمي مريض، ويبذل قصارى جهده، ويصنع المستحيل في ثانوية عامة أو أزهرية، أراهن أنها الأصعب في العالم، والأكثر جهداً وتوتراً ومدعاةً لانفلات الوضع وتمزق الأعصاب، ثم يصنع المستحيل ولا يخطئ خطأً واحداً، كأنه آلة مصنوعةٌ بإتقان، لا تقبل عنصر الخطأ البشري، فيكافَأ بذلك -أو يعاقَب- بدخول كلية الطب، لينفق فيها عمره، ويبيض شعره إن كان أسود، ويطير شعره إن كان كثيفاً، وتهرم مبكراً إن كانت فتاة، ويسودّ تحت عيونها مهما استعملت ماسكات، لأنها في كليةٍ تقصف العمر لا الشَّعر فقط.

ثم يتخرج، دون أن يتخرج، يُكلَّف بينما يجهز نفسه للدراسات العليا أو الزمالة، ويُكلَّف على طريقة المجنّدين، في وحدة صحية تبعد عن بيته ألف كيلو متر، ويقبل التكليف لأنه سيموت جوعاً إن رفض، أو يرفض لأنه سيموت من القهر يوماً إن قبِل، ويذهب الأول إلى وحدته الصحية أو المستشفى، ومعه في الدور نفسه يسكن المرضى من البشر، والأصحّاء من عالم الحيوان، حتى يُخيّل إليك المستشفى من كَم الفئران والحشرات، أنه بيت الزواحف في حديقة حيوان الجيزة، لكن بالتأكيد، بيت الزواحف كان أكثر نظافة وترتيباً.

أما الثاني فيسافر أو "يهجّ" -و"يَهِجّ" ربما نجد لها أصلاً آخر، وأرجّح أنها مشتقة من الــ"هجـ"ــرة- المهم، سيُعين في الخليج أو أوروبا، وبعد سنواتٍ قليلة سيُرقّى بينما لا يناديه أحدٌ باسمه، سيقولون "الدكتور المصري" كماركة مسجلة للتفوق والتميز، وفي المستشفى يعلم الجميع ذلك، والمرضى في بيوتهم يعلمون ذلك فيطلبونه بالاسم، لكنه حين ينفرد بنفسه في غرفته آخر الليل سيبكي كثيراً، لأنه تمنى لو حصل على ربع ذلك التقدير في وطنه، ويبكي أكثر لأنه كان مجبَراً على الهرب، وأنه خُيّر بين أن يعيش في وطنه بلا تقدير، أو أن يعيش مقدّراً لكن بلا وطن.

ثم يواجهك المجتمع، والناس عندنا آذانهم أوعية للقنوات، والقنوات الموقّرة تقول إن الأطباء مفترون، وإن الممرضين فشلة، وإن العاملين بالصحة أعداء للوطن، طماعون، يريدون التربح على حساب المرضى، وأنهم بلا فائدة، كأن المذيعين حين يمرضون يذهبون إلى الحلاقين فيشفونهم، والأطباء؟ سد خانة، كمالة عدد، قطعة ديكور في شقة الوطن القديمة، لا قيمة لأيٍّ منهم، ولذا ستجد جزءاً غير قليل من الشعب يلومك على كل شيء، إن مات المريض سيلومك لأن ساعته جاءت، وإن أنقذتَ المريض فلأنه قضاء وقدر ولا فضل لك، وإن طالبتَ بحقك سيقولون إنك تصطاد في المياه العكرة وتتربح من المرض، وإن سكتَّ سيقولون لأنك "ملكش عين"، وفي النهاية إن متّ بالعدوى سيقولون "باب النجار مخلع"، طبيبٌ فاشل، لا يعرف كيف يقي نفسه.

ثم من زاوية أخرى، سيواجهك عقلٌ وُضع بالخطأ في مكانٍ غير الرأس. المهم، في أزمة كهذه "تحس الدول على دمها" فتلتفت إلى قطاعٍ مهضومٍ اسمه القطاع الصحي فتصرف لهم مكافآت، هي في الحقيقة مجرد مقابلٍ بخسٍ لساعات العمل الإضافية ومقدار الخطر الحقيقي، ومع ذلك، "اللي يجي منهم أحسن منهم"، مكافآت رمزية مهما بدت كبيرة، ربما تعين الطبيب أو الممرض على أن يشتري لأولاده -من بعيد- بعض الحلوى التي تلهيهم -ولو ساعة- عن غيابه، أو أن يرسل لزوجته المسكينة هديةً فوقها قبلة، بمثابة اعتذارٍ ودعوةٍ لمشاركته نفسياً في حربه، وكل هذا يا سيدي في أي بلدٍ عدا مصر، لأنك هنا كطبيب، إن قلتَ: مكافأة، قالوا لك هذا هو عملك، وإن قلتَ: آه، قالوا: قطع لسانك، وإن قلت: أنا تعبت، قالوا: بطّل دلع، وإن قلت: زيادة الرواتب، قالوا: مفيش فلوس! (وبيني وبينك وما تقولش لحد، فيه فلوس بس لما تموت هيبقوا يعملولك بيها نصب تذكاري).

أن تكون طبيباً في مصر، أو ممرضاً، يعني ذلك أنك تدفع حياتك، لكن لمَن؟ هنا مربط الفرس، إنك تدفعها بلا سبب لدفعها، ما الداعي لأن يموت الطبيب أصلاً؟ ربما بالعدوى أحياناً، لكن لا يجب أن يموت الطبيب بالعدوى كل يوم، ليس معقولاً أن يموت في اليوم أربعة أطباء، كلهم مهمِلون إلى هذا الحد؟ أم مهمَلون؟ رمتهم طائرة في الصحراء وقالت: قاوموا، ونحن يا سيدي الطيار لسنا في "دريم بارك" لتختبر قوة تحملنا بالملاهي، وإنما في معركةٍ شرسة مع وباء لا يقاوَم بالـ"هههه" ولا بالورع الكاذب، وإنما يواجَه بكمامةٍ على وجه كل طبيب وممرض وأخصائي، وقفازات في يده، وبدلةٍ واقيةٍ على جسمه، ومستلزمات تُبدّل كل ساعات محددة، ومكافآت تعوضهم قليلاً عن راحتهم، وأنت زين العارفين أن الراحة لا تقدر بمال، لكنهم يضحّون بكل شيء، ومن حقهم أن يجدوا في جيوبهم -عندما يرجعون من عملهم- شيئاً غير ثمن المواصلات.

ونحن هنا لسنا بصدد الحديث في السياسة، ليس لأنني أخاف منها -لا سمح الله- وإنما لأن الكلام فيها انتهى وصار موضة قديمة، ولأننا في مقام تأدب، مقام الحديث عن الإنسان، الذي كرمه الله وأهانته الدولة، الكلام يا عالَم من زاوية إنسانية بحتة، الصراخ صراخٌ بلا لونٍ أو شكل، الصراخ صوتٌ واحد، بطريقةٍ ما، وأنا الآن أصرخ تضامناً مع الصارخين، أصرخ بقلمي بينما يكتمون هم صرخاتهم في أجوافهم، لأن المرضى أمامهم لن ينتظروا حتى تُسمع صرخاتهم، سيموتون بسرعة، فلِمَن تدفع أرواح الأطباء في مصر إن لم تكن للمرضى؟ بالتأكيد هناك إجابة في درج أحد المسؤولين، ستظهر حين تُستجاب -لا ليس الطلبات- وإنما الدعوات.

وفي عالمٍ موازٍ، في بريطانيا -ولستُ من المرضى بعقدة الخواجة ولكن- كنتُ أحرر خبراً من إحدى الوكالات، يقول إن البريطانيين معترضون ويشككون في تعامل الدولة مع رئيس الوزراء "بوريس جونسون" بجدية أكبر من المرضى الآخرين حين أصيب بكورونا، ونفى المسؤولون ذلك، وحينها ضحكت حتى اغرورقت عيناي، وتذكرتُ بلادي على الفور، وشعرتُ بحموضةٍ مزعجةٍ في صدري، تكاد تحرقه وتحرقني معه، وتخيلتُ كيف يُحجَر الممثلون أو يُجلَون من الخارج أو حتى كيف يُجلى أبناؤهم، ثم كيف يُحجَر العوام -أو كما اتفقنا على تسميتهم سابقاً- "ولاد الكلب الشعب"، كيف ينام هؤلاء على حرير وكيف ينام هؤلاء على أسرّة حديدية بلا مراتب، ونحن هنا في إطار الحديث عن حقوق آدمية كان لا بد أن تكفَل بالتساوي ولو في شهر الأزمة فقط، ثم بعدها ليكملوا التمييز الطبقي براحتهم.

واليوم أتذكر مجدداً وأضحك لكن بمرارة، حين أجد الطبيب الشاب "وليد" يستغيث بالدولة التي أصيب بينما يعمل لأجلها، ولا يجد جهاز تنفس، ولا يجد رداً من الوزارة، وأتصور لو أن كلباً نبح تحت شباك الوزيرة لخرجت ترى ما به، لكنك معذورةٌ لأنه إنسان وليس كلباً يا حضرة الوزيرة.

ورقم وليد بالتأكيد عادي، مثل أرقام هواتفنا جميعاً، وليس رقماً مميزاً كرقم فنانة بحجم رجاء الجداوي، لترد عليها الوزيرة بنفسها، وترسل إليها سيارة إسعاف مجهزة تنقلها إلى سريرها المحجوز مسبقاً، وبالتأكيد لا نريد حين نطلب المساواة أن تعامَل رجاء مثل وليد، وإنما أن يعامل وليد مثل رجاء، وأن يعامل الجميع بشكل واحد، وهنا تحضرني المفارقة لأتخيل وليداً يرجو الحياة، رجاءً شديداً، رجاءً مهماً، رجاءً ضروريّاً، لكنه على كل حالٍ لم يكن رجاء الجداوي، فمات.

وأستغل الفرصة لأخترع نكتةً سوداء جديدة، ربما تصير عابرةً للحدود فيما بعد، تقول النكتة إن جندياً بُترت ساقه في انفجار لغمٍ على الجبهة، بينما أزعج صوت الانفجار أذنَ سيدةٍ في حيٍّ راقٍ بعيدٍ عن الألغام؛ في الدول المحترمة جداً، سيرسلون طائرة إسعاف للجندي وسيارة إسعاف للسيدة، وفي الدول المحترمة، سيرسلون سيارة إسعاف للجندي، وسيارة إسعاف أيضاً إلى السيدة، وفي الدول نصف المحترمة، سيرسلون سيارة إسعاف تنقل الجندي إلى المستشفى أولاً ثم تعود لتنقل السيدة، وفي الدول الفقيرة سيرسلون سيارة إسعافٍ مرةً واحدة تنقل الجندي ويتركون السيدة، أما في الدول قليلة الأدب، فستترك الدولة الجنديّ الجريح على الجبهة، وترسل سيارة الإسعاف إلى السيدة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد