كمدرِّسة تعمل عن بُعد.. هذه رسالتي إلى أعزائي الطلبة

عدد القراءات
1,976
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/23 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/23 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش
كمدرِّسة تعمل عن بُعد.. هذه رسالتي إلى أعزائي الطلبة

لأنَّ البدايات جميلة؛ على النهايات أن تكون كذلك، ولأنني أرغب كثيراً في أن أكونَ قد أدَّيتُ رسالتي وأكملتُ مسيرة فصلٍ استثنائي. ولأنني دائماً ما أتوق إلى النهايات الجميلة، كما نهايات الروايات التي أستمتع بقراءتها، سأكتفي بتوديعكم هنا في العالم المسمى الافتراضي. على أنه ظهر لي أنه عالم حقيقي مُوازٍ لعالمنا الذي نعيش فيه، وليس باليد حيلة، وسأكون على العهد بانتظاركم حين تعود الأيام إلى سابق عهدها، تعرفون أين تجدونني، وسأرحب بكم دوماً بابتسامة. 

هل تسمحون بأن تكملوا القراءة، عليَّ إخباركم بما يلي، أولاً والأهم: "لا تيأسوا من روح الله"، فهناك أشياء كثيرة لن نتمكن من فَهمها إلا بعد أن نخوضها بأنفسنا، وفي الغالب نخوضها رغماً عنَّا، نختبر صعوتها ونتجاوزها أخيراً، ونفهمُ في النهاية سبب حدوثها؛ لأنَّ الله يكشف لنا بعد انقضائها لماذا مررنا بها.

كنت أشعر بالإحباط وبعدم القدرة على تحمّلكم في كثير من الأحيان، كنت أفقد أعصابي وأقول: جيلٌ غريبٌ، وأحاول استيعابكم، والآن أشعر بأني أحتاج استيعابَ ما حدث فقط، كان يوماً كباقي أيام نهاية الأسبوع طبيعيّاً، هادئاً نوعاً ما، جاءنا قرار الحكومة بوقف التعليم في الجامعات والمدارس لمدة أسبوعين، والذي كنَّا نجهله حينها أن المستقبل سيكون مبهماً بالكامل، لملمتُ كتبي وأقلامي وبعض حاجيات لم أحتج أيّاً منها، ولا أعتقد أني كنت أعرف ما أفعل حينها، فلو عرَفتُ لَمَا أخذت معي سوى تلك النباتات التي كنت أسقيها يوماً بعدَ الآخر، بدلاً من كل تلك الجمادات التي اكتشفتُ مؤخراً أنْ لا قيمةَ لها، ولو استطعت أن أعود لدقائق فقط كنت سأخبركم ما لم أستطع إخباركم به يوماً، أني أحبُّ كَوني مُدرِّسة لكم، أنكم رائعون بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أنني أؤمن بكم وبأحلامكم، وبأنكم ستتجاوزون كل تلك الصعوبات التي مرّت، وتلك التي ستمر، وبأنني سأشتاق لكم. لو عدت لدقائق أخرى لاعتذرت كذلك عن كل تلك اللحظات التي شعرت فيها بالإرهاق الشديد، أعتذر؛ لأنه كانت هناك لحظات شعرت فيها بالإحباط، أو فقدت فيها صبري وفقدت بها رزانتي، والأكثر لأن الوقت قد نفد، كنت سأعتذر لو علمت أن هذا آخر يوم لنا، وأني لن أراكم مرة أخرى على الأقلِّ ليس هنا.

كنت سأبكي المكان، والشوارع والأشجار، والمقاصف والجدران، لكنني لم أبكِ أيّاً من كل ذلك، والأغرب أنني وحتى الآن لم أذرف دمعة، وكأنه لا وقت لي للبكاء، أو كأني لم أقدر على استيعاب كل ما حدث حتى اللحظة، أعلم أنكم فارقتم المكان مهللين مرحبين بقرار العطلة، ولكنكم كنتم مثلي تماماً، لم تدركوا ما يحدث وما سيحدث وإلى أي مكان وزمان سيؤول به الحال، أعتذر أني كذبت حين سألني بعضكم بعد أيام من لقائنا عن بعد: "متى سنعود دكتورة؟"، وأجبت بوثوق: "بعد أسبوعين مِن الآن"، ثم "قريباً"، ثم "بعد شهر من الآن"، اعتقدت أني أملك كل الإجابات حينها، وكنت أجيبكم بما اعتقدت، أو كنت أجيب نفسي، لا أدري حقيقة ولم أكن أدري أن تلك الإجابات افتراضية، كما لقاءاتنا الافتراضية التي لا تغني عن رؤية وجوهكم التي لا تعوّض بثمن. وبعد شهرين من التعليم عن بعد تغيرت وتيرة أسئلتكم لم تعد كما في السابق، صارت في جلها عن المعدل والنجاح ومواعيد الامتحانات والواجبات وتسليمها واستلامها وتصحيحها، أشعر بغصَّةٍ وأنا أعلم جيداً ثقل المسؤولية التي أحملها، أنتم ونتائجكم ونجاحكم وإخفاقاتكم مسؤوليتي، وأعلم همَّ الحياة وهي تفاجئني وتفاجئكم وأهاليكم وبيوتكم من صعوبات وتحديات تضعنا جميعاً أمام اختبارات كثيرة، وأعلم الآن أن لا حول لي ولا قوة.

التعليم عن بُعد جعلني أفتقد الأشياء الصغيرة، الأيام التي لا يشبه بعضها بعضاً، الشجارت والمفاجآت والفوضى في الممرات والمقاصف والأقسام، أفتقد سماع قصصكم، أصوات غنائكم، رسومات قسم الفنون، ونشاطات الكتب لكلية الآداب حين تتزين بالكتب على الطاولات المحفورة بأسمائكم، يا لمشغباتكم، اشتقت لتفاعلاتكم حين نناقش موضوعاً رياضيّاً أو اجتماعيّاً، ويشتد النقاش وأقف مشدوهة بحواراتكم، أفتقد الأشياء المضحكة التي تفعلونها، والعبارات التي تقولونها، أفتقد محاولة قراءة تعبيراتكم وفك مزاجياتكم.. أفتقدكم.

آمل أن تكونوا قد تعلمتم شيئاً واحداً مني على الأقل، آمل أن تكونوا قد رأيتم شغفي، شغفي بالتعليم، وبالتعلُّم منكم، وشغفي بالحياة، آمل أن تؤمنوا كما أؤمن بكم وبإمكانياتكم وبأهدافكم التي ستتحقق يوماً، ثقوا بالله واصبروا، "فالله يحب الصابرين".

فلتعلموا أنه حتى وإن استمر التعليم عن بعد، أن التعليم كان وما زال ذاتيّاً، المعلم مجرد مرشد، ومسهل لا أكثر ولا أقل، لا يوجد مكان قادر على إعطائك تعليماً حقيقيّاً إذا أنت لم تقتنع أو لم تمارس التعليم بنفسك، ولا أحد أيّاً كان يستطيع أن يدَّعيَ أن لديه إجابات لكل شيء، واعلموا بأن كل من تقابلون سواء أكان أباً أستاذاً أو صديقاً، أو حتى طفلاً صغيراً هو محفز للتفكير، وإن لم يقدم الإجابة، ابحثوا عنها بأنفسكم، آمل أن تكون هذه الأزمة جعلتكم تصنفوا أولوياتكم في الحياة، آمل أن تكونوا تعلمتم الأشياء الحقيقية من الأشياء الزائفة، أنكم رأيتم قيمة العلم في أنقاض العالم أجمع.

أعلم أن حياة الدفء وزمن الأمن قد ولَّى من حياتكم مبكراً، وأن وقت اللعب قد فاتكم قبل الأوان، أعلم أنكم جيل لم يحلم بسوى حياة صاخبة تارة أو هادئة تارة أخرى، وأعلم أن منكم قد عانى الحرب أو النزاعات أو الغارات أو الحصار في مرحلة الطفولة. وأعلم أنكم قد واجهتم وتواجهون حروباً بأسلحة ذكية قد تسقط جبلاً من شدة قسوتها، وأعلم أن الوباء والحظر وتدهور الحياة المعيشية والأزمة الاقتصادية طالتكم جميعاً، لماذا عليكم أن تشهدوا كل ذلك؟ لأنه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، والله لم يخلقكم عبثاً في زمن كهذا، فكل زمن له رجاله، وأنتم رجاله، ولتعلموا أن الأقنعة ستسقط مهما طال الزمان واحتمى بها البشر، وسترون وجه الحقيقة في النهاية، إياكم أن تسقطوا في سبيل إرضاء أحد، كونوا حقانيين، لا تكتموا الخير بداخلكم، ازرعوا الحب أينما تكونوا، علّموا بلهفة، اعملوا بثقة، وحققوا أحلامكم، الكثير منها، واستخرجوا كل ذرة خير بداخلكم، ولا تثبتوا شيئاً لأحد، أثبتوا لأنفسكم فقط أنكم أفضل وأقوى وأقدر على تجاوز كل الصعوبات، حتى وإن ظن الآخرون بكم ما ظنوا، ولتعلموا "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رزان الزيود
كاتبة أردنية
تحميل المزيد