في مقال سابق نُشر على مجلة le point الفرنسية، قال الدكتور Sébastien Boussois، الباحث في العلوم السياسية في جامعة بروكسل، إن دولة الإمارات العربية هي "الوسيط المثالي" لخلق الأزمات في العالم العربي، عبر تطبيق ما سماه ذات العلاج، وهو "الاختناق الديمقراطي"، في كل الدول لعسكرة العالم العربي.
صورة معبرة رسمها الدكتور بوسوا، وهي إن دلت على شيء فإنها تدل على أن عدوانية محمد بن زايد وتوجهاته السلطوية أصبحت معلومة لدى كل المتابعين للشأن السياسي في العالم، حتى وصف بأنه إدموند بورك القرن الواحد والعشرين، باعتبار أن الفيلسوف الأيرلندي المذكور كان أشرس المنظّرين المعادين للثورة الفرنسية، وذلك ما ضمّنه في كتابه "تأملات حول الثورة الفرنسية" سنة 1790، حيث وصف الثوّار اليعاقبة في ساحة الكونكورد بالمتعصّبين الأيديولوجيين الذين تدفعهم المثالية لتحطيم كل ما سبق.
المؤكد أن محمّد بن زايد ليس في درجة علم إدموند بورك أو فلسفته، لكنه يستوحي منه روح عداء الثورات.
رحلة الأمير الإماراتي المهووس بالإسلاميين في عسكرة العالم العربي ليست بالمستجدة أو الطارئة، حيث توشك أن تغلق عقدها الأول بعد أن انطلقت مع الشرارة الأولى للربيع العربي في تونس أواخر سنة 2010… وبما أن تاريخ الثورات يخبرنا بأن لكل ثورة، ثورة مضادة، فقد كان الأمير الإماراتي راعيها (راعي الثورات المضادة) في صنعاء في ميدان السبعين، في دوار اللؤلؤة، في ميدان التحرير، شارع الحبيب بورقيبة… في كل العواصم العربية… فالصورة كانت كما وصفها الكاتب اليهودي نوح فيلدمان، في كتابه "الشتاء العربي"، إذ اعتبر أن الثورات العربية لحظة فارقة في التاريخ الحديث غير أنها مثل الألعاب النارية تضيء السماء للحظات ثم يحلّ بعدها الظلام.
نجحت أبوظبي في وأد الثورة المصرية في مهدها عبر دعم انقلاب المشير السيسي على أول رئيس ديمقراطي منتخب في تاريخ البلاد بشكل دموي بالتوازي مع بث الفتنة في اليمن وليبيا.
من المفارقة أن تنجح إمارة صغيرة تأسست في سبعينيات القرن الماضي في الإطاحة برئيس أكبر دولة عربية في التاريخ والجغرافيا، لكن هكذا أراد منطق "البترودولار".
حتى لا نطيل في تقديمنا… غرق المشرق العربي في ثنائية "إما الفوضى أو الاستبداد" وللشعوب حرية الاختيار بينهما، غير أن الصورة السوداء لم تكتمل في المغرب العربي، حيث فشلت أبوظبي في استنساخ السيناريو المصري في تونس صيف 2013، حيث اهتدى الفرقاء السياسيون إلى حل وسط تاريخي، تمثل فيما اصطلح على تسميته "لقاء الشيخين" (راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية والباجي قايد السبسي رئيس حركة نداء تونس العلمانية) في نزل البريستول بباريس في أغسطس/آب 2013، وأفضى إلى خارطة طريق جنّبت تونس مصير "المحروسة" بتنازل الإسلاميين عن السلطة مقابل الحفاظ على المسار الديمقراطي.
الجولة الأولى انتهت بخسارة عرّاب الثورات المضادة في أرض تونس، لكن الرهان كبير، ويستحق إعادة المحاولة.
نجحت تونس في إجراء أكثر من استحقاق انتخابي ديمقراطي… الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، ثم انتخابات محلية سنة 2018، فانتخابات تشريعية تلتها رئاسية سنة 2019، وانتقال سلس للسلطة بعد وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي، لتحقق تونس انتقالها الديمقراطي حسب معيار صامويل هنتنغتون، الذي يعتبر أن ترسيخ الديمقراطية رهين بمرور تناوبَين، على الأقل، على السلطة بعد الانتخابات الحرة الأولى.
العلاقات التونسية الإماراتية، منذ 2013، شهدت فتوراً مع افتعال أبوظبي لبعض المشاكل الدبلوماسية الاستفزازية بتشديد شروط التأشيرة على الرياضيين التونسيين وحتى منع دخولهم، حضور باهت في مؤتمر الاستثمار الذي نظمته تونس سنة 2016، وصولاً إلى منع النساء التونسيات من ركوب الناقلة الإماراتية في مطار تونس قرطاج سنة 2018، مع محاولات تونسية لامتصاص هذه الأزمات واحتوائها.
في ظهر التجربة التونسية الديمقراطية الهشة، كان الصراع العسكري على أشده في الجار الشرقي ليبيا، حيث حاولت ميليشيات خليفة حفتر، المدعوم من الإمارات، باعتباره النسخة الكربونية لعبدالفتاح السيسي، اجتياح العاصمة طرابلس الخاضعة لسلطة حكومة الوفاق المعترف بها دولياً.
التطورات الميدانية الأخيرة بسقوط قاعدة "الوطية" والهزائم التي منيت بها ميليشيات المشير المتقاعد دفعت أبوظبي إلى تغيير البوصلة إعلامياً نحو تونس، لتخفيف الضغط على حليفها، ونظراً للرمزية التي يحظى بها رئيس البرلمان راشد الغنوشي، أحد أهم الشخصيات الإسلامية سياسة، فكراً وتنظيراً، فقد كان هدفاً للماكينة الإعلامية الإماراتية، وهو ما يفسّر الحملة الممنهجة التي يتعرض لها منذ أيام من تلفزات ومنصات ومواقع إلكترونية "تصرخ بالدرهم الإماراتي" (مقولة لطحنون بن زايد مستشار الأمن القومي الإماراتي) في الإمارات والقاهرة ولندن وبنغازي وغيرها.
رأس الغنوشي مطلوب سياسياً، هذا مؤكد، رأس حركة النهضة مطلوب، هذا أكيد باعتبارها الحركة الإسلامية الوحيدة التي نجت من مكائد محور الشر، لكن الهدف الأساسي من كل هذا هو وأد الثورة التونسية التي تسبب صداعاً مؤلماً لفرانكشتاين الصغير، مما ينبئ بصيف ساخن تنزل فيه الإمارات بثقلها في تونس بشتّى الوسائل، في محاولة لتحريك وكلائها في البرلمان وفي المشهد السياسي للتشويش والإرباك.
من المؤكد أن أبوظبي لن يهنأ لها بال في تونس الديمقراطية، ولذلك فستحاول وتعيد المحاولة بتنويع الأدوات والوسائل، مادامت حركة النهضة "شوكة في خاصرتها" وخاصرة حلفائها، والعبارة للكاتب البريطاني ديفيد هيرست.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.