الوطن الذي يعيش فينا

عربي بوست
تم النشر: 2020/05/22 الساعة 10:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/22 الساعة 10:46 بتوقيت غرينتش

لقد مر أسبوع، نعم، على تلك الذكرى الثقيلة التي نصطدم بها كل عام ونزيد في عداد السنين منزلة في آحادها، ذكرى نكبة فلسطين التي لا شك لها من وقع اسمها نصيب ثقيل، وشعور مختلط في داخل كل فلسطيني في الداخل الفلسطيني كان يعيش أم في خارجه، يذكره مرة أخرى بذات الهم الذي اقترب من القرن في عداد أيام البشر. 

ربما كان من المنطقي أن أكتب وغيري عن هذه الذكرى، في 15 مايو/أيار من كل عام، لأتذكر وأذكر من سيقرأ بذات الهم، ثم يمر اليوم ولا يتغير شيء، لا في تصنيفنا الفردي والجمعي الفلسطيني، إلا من الشجن. 

علينا أن نتذكر، ولا بأس إن لم يكن بد تركيز عواطفنا نحو الوطن الذي سرق منا. 

وبعد عشر سنين إلا نيفاً مرت على ما سميناه "ربيعاً عربياً" تفاؤلاً وأملاً زاد الهم هموماً، وصارت لنا أوطان مسروقة، نبحث عنها في تفاصيلنا اليومية ونتألم بصمت أحياناً، وبنحيب فرضته قسوة المنفى أحياناً أخرى. 

ففي مرة قلت لصديقة لي سورية على قافية شر البلية ما يضحك: "الآن تقاسمنا الهم فعلاً"، فما معنى أن تتفرق شمل العائلات أو تبحث عن بلد آخر ليعطيك جنسية أو جواز سفر، وكيف يصبح هذا هدفاً أصيلاً في حياة اللاجئ؟ 

ما معنى أن تكتب جنسية في المكتوب من أوراقك ومعاملاتك ويكون انتماء القلب والروح معلقاً بالأولى في كلامك وتعريفك عن نفسك؟ 

ما معنى أن يكون في نفس العائلات باقة من الجنسيات المختلفة، لن تجد هذا إلا من ختم بختم اللاجئ. 

في الشتات ظهر مصطلح "الوطن الذي يعيش فينا"، فالشكر الجزيل لمن اخترعه، فرب أجيال تتوالى وأنا منهم نعيش هذا المصطلح كجزء أصيل من هويتنا. 

والأرض في كل يوم تطوي أجيالاً في المنفى كانت تحلم بالعودة، ولا يخطر ببالي حين أقول هذا إلا مشهد للفنان الراحل خالد تاجا في مسلسل "التغريبة الفلسطينية" وهو ينظر للدار تحترق أمام عينيه الصامتين المحدقتين في المجهول. 

في "التغريبة الفلسطينية" سمعت صوت جدتي مراراً، وكلاماً كثيراً لأبي، وتفاصيل حدثت مع أهلي وأقاربي، وقرية ورائحة الطابون وطعم الزعتر والزيتون.. صور بصرية يسهل علي فيها طبع ذاكرة لما سمعت وقرأت عن جذوري. 

في "التغريبة الفلسطينية" رأيت ما حصل مع كل عائلة طردت قسراً، وفهمت كيف عاش الوطن الفلسطيني في قلوب اللاجئين منذ تلك اللحظة بدل أن يعيشوا فيه. 

فالتاريخ سرد نظري مجرد لأحداث وأرقام وأحداث ترويها الكلمات والحروف، غير أن الفن والأدب صورة إنسانية أشد قرباً وأكثر تفصيلاً أو خاصية زوم في كاميرا تسلط الضوء على صورة أدق، وكأنها كتبت لتناسب مقاس شعورنا ومواطن المعاني فينا جميعاً، كل سيجد ما يشده ويلمسه من تفاصيل القصة، وينطبع فيه ما لا يجب أن ينسى. 

بتنا بحاجة لتغريبات عربية عديدة، لتؤرخ في نفوسنا تفاصيل لا يجب أن ننساها، وصارت غربة الفلسطيني جزءاً من غربة أكبر، تفاصيله قصص تنسخ نفسها من ذات الهم، ولا يجب أن تنسى. 

سأعترف وأقول إن مقالتي هذه لم تكن في التخطيط، فلم أكن أريد أن أعيد كلاماً نجتره في كل عام عن نكبتنا الفلسطينية، مع كل تقديري لهذا الدور ومن يقوم به مدركة لأهميته وضرورته. 

ولكن طارق الفكرة راودني بعدما شاهدت مقابلة للفنان السوري جمال سليمان على إحدى القنوات من أيام، وأسئلة المذيعة عن موقفه مما يحدث في وطنه سوريا تحاصره طوال الحلقة، وفي روح إجاباته لموقفه المعروف والمقدر ما تذكرت إلا "أبوصالح"، القائد الفلسطيني الفلاح الذي حارب الإنجليز ودافع عن قريته يوم اقتحمها الصهاينة حتى أصيب بجروح، وانتهى به الأمر في مخيم للاجئين، فجاءت دورية للاحتلال وأخذته إلى الضابط الذي أجرى معه حواراً وتركه طليقاً فعاد لبيته يبكي حزيناً، لأن "اليهود ما عادوا شايفينه القايد أبوصالح… اللي لازم يسجنوه أو يطاردوه".

ليس المقصد من حديثي تمجيد شخص بعينه، مع كل الاحترام لأدوار ومواقف الفنان جمال سليمان، ولكن ما أرنو إليه هو تلك اللحظة التي باغتت خاطري. 

كيف تسقط المبادئ أشخاصاً وتنجي آخرين في محكمة الوعي الجمعي للناس والشعوب؟! 

يا ليت، وليت للتمني، أن يكون الفن والأدب والشعر والدراما والأفلام وغيرها صادقة  ينسجم فيها الفنان أو الكاتب أو الأديب انسجاماً بين ما يقدمه وحقيقته، فيصبح لطعم ذلك الإنتاج الأدبي أو الفني مذاق ألذ وأرضى للروح. 

في مقابل صورة تتكشف باستمرار لصدمات، إن لم أبالغ في توصيفها، لمن تناقضت أقلامهم وأفواههم مع حياتهم في أرض الواقع، حتى وصلنا لعام 2020، وسنذكر أنه في هذا العام كان للدراما العربية في رمضان حصة هذا العام من عار التطبيع، وانحدار في القيم والمفاهيم، وسنذكر أن إعلاماً مول وروج وأنتج فناً مبتور الحقيقة ليصنع رواية مشوهة، في محاولة لجعلنا نستسيغ عيشاً مشتركاً مع عدو قتل وهجر وذبح في نكبة فلسطين وما تلاها. 

أخاف على جيل يراد له أن ينسى، جيل كل الرهان عليه، بأن يصبح أكثر وعياً وتمسكاً بهويته، فكلما كانت ملامح الهوية أوضح استطاع الجيل التفريق والتصنيف أو "الفلترة" كما أحب أن أسميها في حواراتي مع أولادي الذي ينتمون مثل أمهم وأبيهم لذات السلسلة من الأجيال التي "يعيش الوطن فيها".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مريم الحمد
مترجمة ومهتمة بالقضايا الاجتماعية والتربوية
مريم جواد الحمد، إعلامية ومترجمة ومهتمة بالقضايا الاجتماعية والتربوية، فلسطينية أردنية ومقيمة في إسطنبول، أم لأربعة أولاد، حاصلة على بكالوريوس الأدب الإنجليزي، وعملت في التدريس والترجمة، وكذلك في إعداد وتقديم البرامج الإذاعية بإذاعة مسك في إسطنبول.
تحميل المزيد