تبلغ البساطة من الروح مبلغاً لا يعادلها فيه أي شيء مهما تزيَّن وتلبَّس لباساً مشعّاً. إن الجمال البسيط والفن المُعتق روحانياً قبل التجلي المادي يهدف إلى الانسلال دون مقدمات إلى عمق النفس البشرية، وهي بالذات تحقق سبيل الوجود الأول، وغاية الإنسان في الحياة، في أن يغذي هذه الروح ويُبهجها.
إن المتعة واللذة في جمال الفن ليست أن تكون قاعدتها الرئيسية نمطية، ولا أن تكون ممثلةً في نزعةٍ إنسانية مستمرة، فملامسة العرفان الوجداني أهم من كل هذه التمثيليات، حتى يكون الفن خاضعاً لمعيار القالب الجمالي البسيط المُحترم للجمهور قبل أن يكون ممارسةً مهنيةً، وحتى لا يتحول إلى بضاعة.
تجلي الجمال
يجيب ليو تولستوي عن تساؤل: ما هو الفن؟
إن تجليات الفن ليست المضمون فقط، وإنما كل ما هو محيط بالفن، حتى الحلاق ومصمم الأزياء.
ثم ما هو الفن الحقيقي؟ إن كل هذه الزينة والبهرجة مجرد زيف، فالفن الحقيقي كلمةٌ، ثم رسالة، وهو في الأساس يحمل بين طيّاته تواضعاً غارقاً في البساطة، فمعنى هذا في إجابة ليو تولستوي، أن على الناس عدم الانجذاب نحو كل ما يظهر جميلاً، فهو مزيف، ولأن التعقيد يسكن البساطة.
حسناً، قد تبدو هذه مقدمةً تحليلية إلى حدٍّ ما، لكنها في حقيقة الأمر تصِف أغنية "رمضان جانا" الخالدة.
فهل تعرف حقيقتها وحكايتها؟
كان المُلحن محمود شريف قبل سنة 1952 قد أبدع شكلاً أقرب إلى الطقطوقة المصرية في أغنية رمضان جانا، ولمّا وضع "الكوبليهات" في رئيسيات اللحن البسيط، مبدعاً مقاطع تَطرَب لها أذن المستمع العربي والمصري كانت الرحلة التالية بحثاً عن المغني المناسب.
في بادئ الأمر اهتدى محمود شريف إلى أحمد عبدالقادر، الذي تنازل فيما بعد للسيد محمد عبدالمطلب، فكان الصوت مناسباً تماماً للحن الأغنية الثابت كل الوقت، مع إضافة الكُورال انسيابيةً عذبةً في الخلفية، في شكل يُصوّر قدومَ رمضان في كل شارع عتيق بالأزقة بمصر.
إجابة تولستوي الأخيرة
كم تبلغ قيمة الفن في "رمضان جانا"؟ ما هي أجرة المطرب؟ كيف كان التصوير؟ وهل كنا بحاجة إلى رقص و استعلاء؟
قد يَصدِم القارئ أن يعرفَ أن أغنية "رمضان جانا" كلفت عشرين جنيهاً فقط، بينما غنّاها محمد عبدالمطلب لحاجته الضرورية لستة جُنيهات آنذاك، لذلك نحن أمام استنتاج ليو تولستوي، أن الفن لا يحتاج أن يكون جميلاً وفق المعيار النمطي في أذهان الناس، لكن قيمة هذه الأغنية الآن لا تُقدَّر بثمن، بعد أن صالت وجالت في العالم العربي، وكانت مثالاً صارخاً على قوة الفن الناعمة.
ومع ذلك فإن الأغنية ذات التصوير البسيط، والصوت غير المعدل إلكترونياً قد كانت خالدةً في ذهن المصريين منذ ما يقارب السبعين سنة، ليس لأنها مرتبطة برمضان فقط، بل لأنها تُمثل الفن الحقيقي، المبنيّ على الكلمة والصوت، والأكثر أن صورته لا تُمثل الادعاء الفارغ، وإنما التواضع وهبها صيتاً وشهرةً إلى يومنا هذا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.