يقال إن أصعب جزء في عملية الكتابة هو السطر الأول، الإمساك بطرف الخيط خطوة تسبق لضْمَه في إبرة الأسئلة، ومن ثم يأتي وقت نسج الثوب بالإجابات، لعلّها صعوبة مفتعلة إذا كان مضمون المقال يتعلق بعادل إمام، فما أسهل الكتابة عنه!
تكمن الصعوبة في التقاط الجزء المناسب للانطلاق، نبدأ مع صعوده على رأس المضحكين الجدد في الستينات، أم التحول في مسيرته وانتقائه الأعمال التي تعكس كوميديا اجتماعية وضعته على مشارف القمة في السبعينات؟ أم الأجدر بنا أن نحتفي بفترة الثمانيات وما رسخته من تواجد عادل إمام على قمة الساحة الفنية، على الصعيد الجماهيري والنقدي؟ أبرزت تلك الفترة الجانب الآخر منه إذ خرج من شرنقة الكوميديان وتنوع في الأعمال الدرامية.
نتناول صعوده الجريء مطلع التسعينيات بالتعاون الثلاثي مع وحيد حامد وشريف عرفة، وما نتج عنه من أفلام يعتبرها النقاد من أبرز الأفلام السياسية المؤثرة في تاريخ السينما المصرية، أم هبوطه أمام المضحكين الجدد في نهاية تلك المرحلة، والتحولات في مسيرته الفنية ومواقفه السياسية منذ تلك الفترة حتى اللحظة الآنية؟
دام بقاء عادل إمام على القمة فترة طويلة، وعاصر الحقب المختلفة التي مرّت على تاريخ مصر الحديث، لذا يصعب اختزال عادل إمام في جملة، أو حكم قاطع يصف طبيعته الفنية والشخصية، ومدى تأثيره الممتد في عمق جذور المصريين، كما قال إبراهيم عيسى: "نحن لا نملك بترولاً ولا موارد طبيعية، ولا نملك صناعات شهيرة.. والمنتج الأول الذي نملكه ويمكن تصديره هو الفن بكل مشتملاته".
عادل إمام هو المؤثر كما كان يراه غرامشي، تعامل مع جذور الثقافة الشعبية، بأذواقها وتوجهاتها وأخلاقياتها، حتى توحد مع الهوية المصرية.
للبرازيل بيليه وللأرجنتين جيفارا ومارادونا وللمصريين أساطير خرجوا من دائرة النجوم لمدار بحث أشمل من مجرد دراسة تأثيرهم فنياً، ويجدر دراستهم ضمن إطار تحليل ينتمي إلى علم النفس الجماعي.
هل تذكر مصر دون استحضار أم كلثوم؟ لا، والحال ينطبق بالمثل على عادل إمام.
حاولت كُره عادل إمام
قد يبدو للقارئ أن المقال يسير نحو تعظيم ناتج من المبالغة والحب، والحقيقة أنني كنت أحب عادل إمام حتى التشبع بالنزعة الثورية المصاحبة لثورة 25 يناير، يحجب الحماس والثورية النظرة التحليلية الموضوعية، فمن الأسهل وصف عادل إمام بفنان السلطة ووضعه على القوائم السوداء بدلاً من التعمق والخروج برأي مركب يضفي حقيقة موضوعية للحكم، لذلك كرهت عادل إمام.
حملت نظرتي تحولاً ألقى به من القمة إلى قاع الإذلال، بينما جاهدت لمقاومة طاقته الكبيرة في الإضحاك، إفيهات الزعيم التي أحببتها ككثير من المصريين، حاولت إنكار قدرته الفريدة على تشرب إيقاع الدور وتناغمه معه، وملأت رأسي بتحليلات عن دولة عادل إمام العميقة، دولة الفساد، وارتباطه بالسلطة الذي سمحت بأفلامه السياسية لتجميل صورتها فقط.
وربما كانت تلك التحولات الحافز الرئيسي وراء كتابة المقال، لا للدفاع عن عادل إمام ولا وضعه في قفص اتهام ومحاسبته على بعض المواقف السياسية التي لم تتناسب مع التوجه الثوري.
أحلام ورؤى الفقراء
كان بمقدور عادل إمام وهو نجم ذو شعبية وجماهيرية طاغية أن يعدل عن الأفلام السياسية، ويكتفي بالتعبير عن شريحة المهمشين بالسخرية والاستهزاء بالضحك على دقون الطبقة الغنية من المجتمع، لكنه عكس ممارسات الانتهازية السياسية وتضليل المجتمع بالشعارات الكاذبة، والاستغلال والرغبة في الغنى السريع حتى لو كان على حساب المتاجرة بالفقراء لا بأحلامهم فقط.
أشار الشاعر والناقد حلمي سالم إليه بأنه "الفنان الذي يتبنى القضية ويطرحها، وهو يملك إمكانية الرفض، وكل القضايا التي في أفلامه هو شريك فيها".
عبر عقود خمسة عبرت بمصر مثلت أفلام عادل إمام عناوين للتحول في حياة المصريين، ضبط إشارته على تردد الشارع، وجهه الذي يصلح صورة لبطاقة الملايين من البسطاء تبنى قضاياهم، وعبر عن نظرتهم لمستقبل المستغلين ممن سيؤول بهم الحال للزوال الحتمي أمام حيلة البطل الفقير، الذي يتعذب، يشكو، يئن، يبتسم، ويحلم مثلهم.
وبالحكم على عادل إمام كفنان حقيقي، حمل طابع وتأثير روايات نجيب محفوظ، وقصص إحسان عبدالقدوس، أدرك قيمة الفن وأصبح امتداداً أطول لما فعله بيرم التونسي، ونجيب الريحاني وإسماعيل ياسين ومدبولي وفؤاد المهندس وصلاح جاهين، وغيرهم ممن سخروا السخرية والفن النابع من قلب المجتمع.
يمكن الحكم على أفلام عادل إمام كوثائق للتحولات التي طرأت على المجتمع، لإدراك تحولات الشخصية المصرية، والتقلبات الاجتماعية.
دعنا نلقِ التبسيط المخل بعيداً، وتقبل أن الإنسان ليس كما يقول روسو "بطبيعته خيّر" ولا كما يقول هوبز من أن الإنسان "ذئب لأخيه الإنسان"، ونتوقف عن الأحكام المجردة بتقبل أن للإنسان وجوداً مركباً، يحتوي الحب والكره معاً، انتقاد بعض المواقف والآراء والتوافق مع البعض منها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.