حين تطغى المشاعر على العقول يحدث الغباء، هذا هو واقع الاحتلال الإسرائيلي.. فتصريحات نتنياهو في الكنيست في يوم التصويت على الحكومة الجديدة بأن قيام الاحتلال بضم أجزاء من الضفة سيُعزز فرص التوصل للسلام. فهذا التصريح يدل على أحد أمرين: إما أن نتنياهو غبي، أو أنه يظن الناس أغبياء؛ إذ كيف يمكن أن أستولي على منزلك وأُلقي بك في الشارع ثم أقول لك: "إن هذا سيُعزز علاقتي بك"، إنه الغباء بامتياز.
لكن، وكما يعلم الجميع، فإن الاحتلال الإسرائيلي وحكومته يعتمدان بشكل كامل على القوة، وعلى الدعم الأمريكي. ومنطق القوة لم يكن دائماً هو منطق الحق والعدل، ولذلك فإن الاحتلال يفعل، والعالم العربي، الضعيف والمتفكك، يمارس دور ردة الفعل الكلامية. ولم يمارس العرب الفعل تجاه الاحتلال منذ عقود طويلة، ولذلك من الواضح أن الاحتلال سيُقدم على خطوة الضم (ما لم تحدث مفاجآت) وستكون ردة الفعل الفلسطينية والعربية ضعيفة وخجولة، ولا ترقى لمستوى الحدث.
عودة إلى السياسة الإسرائيلية.. فإن الحكومة ومن ورائها الخبراء والرأي العام (الذي يعكس مجتمعاً متطرفاً يزداد شراهة للسيطرة على الأرض ونهب المال وإذلال الفلسطينيين)، تتبع سياسة متطرفة إلى أقصى الحدود، وتسعى لاغتنام الفرص، سواء كانت أزمة كورونا العالمية، أو ضعف العرب، أو فقدان الفلسطينيين للأوراق السياسية للرد على هذه الخطوة، فضلاً عن الانقسام، وكذلك الدعم الأمريكي اللامتناهي، لكي تفرض "سيادتها" على أجزاء واسعة من الضفة الغربية، ولكن السذاجة تتمثل في أن الاحتلال يدخل مستنقعاً لا يمكن معرفة عواقبه. فعدد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة (الضفة وغزة) يناهز الخمسة ملايين، والوضع قابل للانفجار في أية لحظة، كما أن خطوات التطبيع مع الحكومات العربية، كما تعلم حكومة الاحتلال، هي زائفة بسبب رفض الشعوب للتطبيع. وها هو الشعب المصري يضرب أروع الأمثلة في رفض التطبيع بعد أكثر من أربعين سنة من عملية السلام، كما أن التطبيع مع الأردن لم يتحقق بعد أكثر من 25 عاماً من معاهدة السلام، ولكن الاحتلال لا يريد أن يرى هذه الحقائق.
ويتمثل الغباء في سياسة الاحتلال أيضاً في اتباع أسلوب إدارة المشكلة، بدلاً من سياسة حل المشكلة. بمعنى أن أي حل لا يحقق العدالة والإنصاف للفلسطينيين سيُبقي المنطقة على فوهة بركان قد تنفجر في أية لحظة. ومَن يتابع تقارير الدوائر الأمنية الإسرائيلية يرى ذلك بوضوح، سواء على المستوى الفلسطيني أو على المستوى العربي.
أما الفلسطينيون فلا يوجد شيء يخسرونه، حيث إن الاحتلال يسيطر أصلاً على الأراضي التي يريد ضمها سيطرة كاملة. ولا يُسمح لأي فلسطيني بدخولها، إلا أن إجراء الضم هو فقط من باب فرض الغطاء القانوني على الأمر الواقع. وما دام الفلسطينيون لا يعترفون بهذا الإجراء فسيبقى لا حق للاحتلال في هذه الأرض، مهما طال الزمن.
ولنأخذ على سبيل المثال قيام الاحتلال بضمّ هضبة الجولان في العام 1981، إلا أن قضية الجولان ما زالت على الطاولة للتفاوض مع سوريا. ففي بيان لجيش الاحتلال الإسرائيلي في 10 يونيو/حزيران 1967 وردت عبارة: "الهضبة السورية في أيادينا"، وهو ما يعد إقراراً واضحاً بأن الهضبة سورية. كما لمّح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين إلى أنه يمكن الانسحاب من الجولان وتسليمها لسوريا، حين قال في العام 1993: "إن عمق الانسحاب من الجولان سيعادل عمق السلام". وقال في العام 1994: "إن الانسحاب من الجولان يمكن أن يتم في إطار اتفاقية سلمية تشابه معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر"، أي انسحاب تدريجي مرافق لتطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل وترتيبات أمنية خاصة.
هكذا يمكن أن نفهم سياسة الضم التي تخضع في النهاية لموازين القوى والمساومات السياسية. إن الاحتلال لا يمكن أن يفرض أي إجراء دون الاستناد إلى منطق القوة، وهو منطق فاشل، حيث إن القوة لا تدوم، والصراع بين الحق والباطل مستمر، ولابد للعدالة أن تتحقق.
الغباء هو في تعميق الأزمة، وإثارة الكراهية، والإمعان في إذلال الناس وسلب أراضيهم ومقدراتهم، وامتهان كرامة الإنسان، وتجريد الناس من حقوقهم في الحرية والاستقلال. فهذه السياسة لا تزيد الشعوب إلا إصراراً على الوصول إلى أهدافها وحقوقها المشروعة.
وبالطبع، هذا لا يعني أن يقف الناس والحكومات مكتوفي اليدين، ولكن قناعتي أنه لن يتحرك أحد من إخواننا العرب وأصدقائنا الأوروبيين وغير الأوروبيين ما لم تتحرك السلطة الفلسطينية والقوى السياسية في فلسطين. وأقصد بالتحرك اتخاذ إجراءات عملية ملموسة، وليس التهديد والوعيد والخطابات النارية. والطريق المعبّد لذلك هو وحدة الشعب، وإنهاء الانقسام، والاتفاق بين القوى الوطنية كافة على مواقف وإجراءات تعبر عن تطلعات الشعب الفلسطيني وتحقق إرادته الوطنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.