الكتابة عن حدثٍ معاصرٍ تتحدى مخاطرَ كثيرة، فهي أشبهُ بمحاولة حساب معادلة معقَّدة وسط عاصفة هوجاء. وقد ترددتُ كثيراً في الكتابة عن ثورة تشرين، وسأُبيّن لماذا أسميها ثورة وليس انتفاضة أو مجرد مظاهرات كما يُسمّيها البعض، معللاً ذلك بأسباب شتى، محورها هو قصر النظر إن لم يكن سوء القصد. وأنا لن أُبشِّر بكتابة خالية من الانفعال، لأن هذا هو أحد مخاطر الكتابة عن حدث معاصر، والتي لا يمكن تجنبها أولاً، وثانياً لأنني أعيش هذه الثورة حتى قبل أن تحدُث.
في الأيام الأولى للثورة سمعت أحدَهم يقول ما معناه "ثورتنا ما لها علاقة بالسياسة"، ضحكت من كلامه في حينه، ومن قلة فهمه للثورة وسطحيته، دون أن أتعب نفسي بالجري وراء العبارة واستقصاء مدلولاتها باعتبارها تمثل بلا شك رأي عدد كبير من الثوار وليس رأي ذلك الشخص فقط. كل ثورة هي في التحليل الأخير إرادة سياسية للتغيير، ولكن هذا في وعي المراقب والمحلل والسلطة القائمة، أما الثائر فهو له هدف، وهذا الهدف يرتفع أو ينخفض في أهميته، وفي قربه أو بعده عن الواقع السياسي والاحتمالات التي يمكن أن تخرج منه. وهدف ثورة تشرين وشعارها الأول هو: "نريد وطناً". وهو شعار شاعري أكثر من كونه ساسياً! إنه نتيجة لإحساس الشباب بأن هذا الوطن تمت سرقته من قبل ثلة فاسدة لا همَّ لها غير مصالحها الفردية والحزبية.
إن الجانب السياسي يمثل جانباً واحداً من جوانب ثورة تشرين، وإذا نظرنا إليها من هذا الجانب فسوف نظلمها إلى أبعد الحدود. ذلك أنها ثورة اجتماعية- ثقافية- سياسية.
إن النظام السياسي القائم منذ 2003 هو نظام قائم على مخلفات نظام البعث. إنه الوجه الآخر لذلك النظام بكل عُقده السياسية وأمراضه الطائفية الدينية. إنه رد فعل سمج وجبان لأنه لم يستطع حتى أن يطيح بذلك النظام بجهوده الذاتية، وإنما جاء مع أرتال الاحتلال، بعد أن كان رجاله مشردين على أبواب الدول يتسولون التأييد من هذا وذاك. وقد أقام هذا النظام أبشع صورة من صور زواج الدين بالدولة. وسرقوا الوطن من الناس ووضعوه في جيوبهم أو تحت عمائمهم. صنعوا مجتمعاً يتسلط فيه القوي على الضعيف، ويتكلم فيه مَن رأسه محشو بالأفكار الكلاسيكية العتيقة، ومن تكلَّم بغير ذلك يُقطع لسانه، مجتمعاً عنوانه الفساد السياسي.
إن ثورة تشرين هي ثورة على هذه الأشكال كلها، ثورة على السياسي الفاسد، وعلى رجل الدين الذي يحمل كلام الله بكفٍّ والسلطة بالكفِّ الآخر، وعلى اجتماعهم الذي تنعدم فيه الحرية الفردية والفكرية.
على هذا الأساس ينبغي النظر بإمعان إلى نتائج الثورة لأنها ليست جلية للعيان. فعلى مستوى التغيير يبدو أنها لم تغير شيئاً، ولكن الواقع أنها خلقت مركزاً قوياً جديداً هو الشباب الوطني الذي يريد أن يكون مصير بلده بيده هو، وليس بأياد غريبة تسعى لمصالح خارجية، تدفعها مصالح سياسية أو طائفية. وعلى المستوى الاجتماعي فإن هذا الجيل الجديد يحمل معه بذرة الحرية الحقيقية والفكر الحر. فالحرية التي جاء بها الاحتلال لم تكن سوى ثمرة برّاقة من الخارج فاسدة من الداخل، الغرض منها خداع الرأي العام. إنما شجرة الحرية الحقيقية تنبع من قلب الأرض ولا تأتي بها الرياح من الخارج. وعلى المستوى الديني فلن يستطيع رجل السياسة المتدين (متدين بمعنى استخدامه الدين في السياسة على غرار متأسلم، وليس متديناً كالتزام شخصي بالدين) أو رجل الدين المتسيّس، بأن يستخدم الأيقونات والمفاهيم الدينية من أجل مكسب سياسي من أي نوع (هذا بالتأكيد كنتائج نهايةٍ لم تظهر كلها بعد، وإن ظهرت تباشيرها المتمثلة في فهم الشباب الواعي للنكاح الفاسد بين الدين والسياسة).
إن أبرز ما تمثله ثورة تشرين، والذي يمثل ثمرتها الأعظم، ليس هو التغيير السياسي ولكنه التحول الاجتماعي. ومن طبيعة التغييرات الاجتماعية أنها عسيرة المخاض، بطيئة النمو، ولكنها عصية على الموت. فإذا جاء التغيير الاجتماعي فلا مردَّ له، وسوف يدرك التغيير فلول النظام الفاسد ولو كانوا في بروجٍ خضراء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.