في عام 1997، حدث التغيير الأكبر في تاريخ السينما الحديثة في مصر، مع عرض فيلم "إسماعيلية رايح جاي" الذي حظي بجماهيرية كبيرة، وأعلن عن ميلاد جيل أكثر شبابية من السينما، ثبت خطاه سريعاً في العام التالي من خلال "صعيدي في الجامعة المصرية"، الذي يعد أحد أكثر الأفلام المصرية تحقيقاً للإيرادات.
سريعاً ظهر جيل جديد من الممثلين احتل أدوار البطولة، وتراجع الجيل السابق إلى أن اختفى، إلا من عادل إمام بالطبع. لاحقاً أطلق النقاد والمحللون على جيل "صعيدي في الجامعة الأمريكية" وما تلاه لقب "المضحكون الجدد". كانت الغلبة للكوميديا في هذه الفترة منذ نهاية التسعينيات وفي العقد الأول من الألفية، إلا من اختلافات قليلة يقدمها بعض الممثلين، مثل أفلام الأكشن التي اشتهر بها أحمد السقا، أو التشويق التي قدمها أحمد عز.
لكن الكوميديا نفسها مرت بتحولات كبيرة، وشهدت صعوداً وهبوطاً للكثير من نجومها، إلى أن ظهر جيل أحدث من الكوميديانات، متمثلاً في طرفين الأول هو الثلاثي أحمد فهمي وهشام ماجد وشيكو، والثاني هو أحمد مكي، ومن هنا ظهرت موجة جديدة من الكوميديا.
من السينما إلى التلفزيون
قدم الطرفان السابقان أفكاراً جديدة للكوميديا، فالثلاثي كسر فكرة كوميديا النجم الواحد الذي هو المصدر الوحيد للكوميديا داخل العمل، وكان فيلمهما الثاني "سمير وشهير وبهير" أيقونة كوميدية، ممتلئاً بالاقتباسات الخالدة، بينما سلك أحمد مكي في تقديم البارودي (المحاكاة الساخرة) وبرع فيها خاصة في فيلمه الثالث "لا تراجع ولا استسلام (القبضة الدامية)".
انتقل مكي إلى التلفزيون محملاً بنجاح سينمائي كبير، واختار شخصية ظهر بها في فيلمه "طير إنت" وهي شخصية الكبير لتظهر في مسلسل "الكبير أوي"، الذي كان إعادة تقديم للكوميديا التلفزيونية بعد أن سيطرت لعدة سنوات مسلسلات السيت كوم ثم وصلت إلى ذروة انتشارها ثم انحسرت قبل أن تختفي تماماً. أهم ما قدمه مكي في الجزء الأول من "الكبير أوي" هو أسماء جديدة في كتابة السيناريو، وهم: تامر عز الدين ومحمد عز الدين ومصطفى صقر، هؤلاء جاؤوا بأفكار جديدة ومختلفة للكوميديا التلفزيونية، كوميديا أكثر شبابية تتماشى مع الجيل الجديد الذي صار منفتحاً بشكل أكبر على العالم من خلال الإنترنت وفيسبوك.
حقق مسلسل "الكبير أوي" نجاحاً باهراً، إذ إنه لم يعتمد فقط على السيناريو الجيد، بل قدم كذلك عدداً من الوجوه الجديدة، فشخصيات مثل هجرس (محمد سلّام) وفزاع (هشام إسماعيل) والدكتور ربيع (بيومي فؤاد) صارت معروفة بقوة لدى المشاهدين.
لا شك أن هذا المسلسل، الذي استمر لخمسة أجزاء، شكل حالة مختلفة من الجماهيرية والإقبال على الأعمال الكوميدية، خاصة وقد تزامن مع ظهور جيل جديد من المبدعين على الشاشة بعد ثورة 2011، وإتاحة مساحة أكبر للأسماء الجديدة، أمام وخلف الكاميرا.
بجانب هذه الأسماء في الكتابة، ظهر اسمان في مجال الإخراج، برعا في مجال الكوميديا، عرفهما الجمهور من السينما أيضاً قبل الانتقال للتلفزيون، الأول هو أحمد الجندي، الذي بدأ من السينما بفيلم "حوش اللي وقع منك" عام 2007، ثم كان شريكاً لأحمد مكي في الأعمال السينمائية الأربعة الأولى، قبل أن ينتقل معه إلى التلفزيون ويخرج جميع أجزاء "الكبير أوي" عدا الجزء الأول. والثاني هو معتز التوني الذي كان "سمير وشهير وبهير" هو أول أفلامه، وقدم عدة أفلام قبل أن ينتقل للتلفزيون أيضاً، مقدماً مسلسلات منها "لهفة" و"اللعبة".
إعادة تدوير بلا أي جديد
بعد 2011 شاهدنا عدداً من المسلسلات الكوميدية الجيدة بالفعل، مثل الأجزاء المختلفة من "الكبير أوي" والتي ظلت محافظة على جودتها بتفاوت بسيط، أو المسلسل الوحيد الذي جمع الثلاثي شيكو وهشام وفهمي "الرجل العناب" والذي أعيد اكتشافه مؤخراً، أو مسلسل "لهفة" من بطولة دنيا سمير غانم التي قررت فيه الاستقلال عن أحمد مكي، بينما استمر الفنان الكبير عادل إمام في التعاون مع يوسف معاطي الذي لم ينجح في تقديم كوميديا تليق بالاسم الكبير لعادل إمام.
أغلب الأعمال الكوميدية في تلك الفترة اعتمدت على أسماء ثابتة في الإخراج والتأليف، مثل الأسماء التي ذكرناها مسبقاً، بالإضافة إلى المؤلف تامر إبراهيم الذي قدم أيضاً عدداً من الأعمال الناجحة مثل "ريّح المدام". هكذا كان أمامنا في كل عام عمل كوميدي واحد على الأقل شديد التميز حتى وصلنا إلى عام 2019.
في 2019 كانت هناك صدمة أولى في مستوى الكوميديا المقدمة، رغم وجود أحمد فهمي الذي قدم من قبل "ريّح المدام" وكان أحد أفضل الأعمال الكوميدية وقت عرض، ودنيا سمير غانم، فإن النتيجة كانت محبطة للغاية، فما أسباب ذلك؟
جزء كبير من تراجع الكوميديا هو تكرار الأفكار، أصبحت الكثير من الأعمال تنتمي إلى شكل المهمة الطويلة (Quest)، إذ يوضع هدف ما في بداية العمل أمام أبطاله، وتصبح الحلقات التالية عبارة عن مهمات فرعية للوصول إلى الهدف النهائي، وكأننا نشاهد حلقات متصلة منفصلة، ولنراجع معاً، "نيللي وشريهان"، كان ينتمي إلى هذا القالب، استخدام مجلات "ميكي" للوصول إلى الثروة التي تركها الجد، "ريّح المدام" يعتمد على نفس الفكرة أيضاً، وكذلك مسلسل "الوصية". يتيح هذا النوع تقديم الكثير من الأفكار الفرعية في الحلقات، ولكن المحرك يبقى واحداً، ومع الوقت نشعر أن هذه الحلقات مهما طالت أو قصرت ستصل إلى نفس النهاية، وعندما يتفاوت مستوى الحلقات يصبح الأمر أصعب.
من أسباب التراجع أيضاً الاستعانة بالكوميكس التي تملأ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لتصبح مادة للكوميديا في المسلسلات، حتى فكرة "البارودي" تم ابتذالها، وتطويعها لأعمال بعينها تناولتها مواقع التواصل الاجتماعي، إلى حد تسمية أحد المسلسلات "عزمي وأشجان" وهو اسم شخصيتين في مسلسل "طائر الحب" كانتا مثاراً للسخرية فترة طويلة، هكذا استغل المسلسل رواج الاسمين على مواقع التواصل، وأطلق الاسم على الشخصيتين في المسلسل الجديد، لكن هذا لم يشفع للعمل على الإطلاق.
العامل الأخير في التراجع هو اتجاه الكثير من الممثلين الثانويين إلى أدوار البطولة، خاصة من أبناء مسرح مصر الذين يمكن القول إن بعضهم قدم أداءً جيداً بالفعل في الأدوار الثانية، مثل مصطفى خاطر في "نيللي وشريهان"، لكن الانتقال إلى دور البطولة جعله يخسر الكثير، فمن بين ثلاثة أعمال قدمها كبطل أول، لا يمكن التوقف إلا عند "ربع رومي" كعمل جيد، وإن لم يحقق أيضاً الجماهيرية الكبيرة. الأمر ينطبق على "علي ربيع" وحتى "إيمي سمير غانم" من خارج مسرح مصر.
بـ100 وش، درس جديد
يكاد رمضان الحالي يشبه العام الماضي من حيث تراجع مستوى الكوميديا، رغم وجود أسماء حققت نجاحات سابقة، مثل الثنائي أحمد فهمي وأكرم حسني، اللذين كان مسلسلهما السابق "ريّح المدام" جيد المستوى، لكن عملهما الأحدث "رجالة البيت" كان شديد الضعف حتى أن أحمد فهمي نفسه اعتذر لبعض المعلقين لديه لكون المسلسل لم يعجبهم. يأتي "عمر ودياب" بطولة علي ربيع ومصطفى خاطر منافساً لـ"رجالة البيت" في الضعف، إذ اعتمد بشكل كامل على ما يشبه ارتجال بطليه والاتكال على أن جمهورهما سيغفر لهما ما يقولانه. في حين تعاون عادل إمام مع أيمن بهجت قمر في "فلانتينو"، فعاد به إلى ما يشبه كتابة يوسف معاطي الفقيرة.
عملان فقط استطاعا أن ينجوا من هذا المستوى الضعيف، وهما "ونسني" الذي يعتمد على مجموعة من الوجوه الجديدة، وإن كان يبدو مناسباً أكثر للمنصات الإلكترونية وليس للعرض يومياً في رمضان، إذ تخاطب لغته وفكرته جيل الشباب بقوة، والعمل الثاني هو "اتنين في الصندوق" الذي قدم درساً للممثلين المحسوبين على مسرح مصر، في أن الالتزام بالسيناريو الجيد والعمل تحت قيادة المخرج، هما السبيل لصناعة عمل ناجح، وليس مجرد إلقاء "الإفيهات" بشكل عشوائي يميناً ويساراً. يمكن أن نضم لهما "اللعبة" بطولة الثنائي هشام ماجد وشيكو، وإن كان قد عُرض قبل رمضان.
لكن الأعمال السابقة، رغم جودتها، ليست هي الأبرز، بل جاءت المفاجأة من فريق عمل غير كوميدي بالأساس، ليصنع أفضل مسلسل كوميدي في العام الحالي، العمل الذي سيصبح علامة مهمة في الكوميديا خلال الأعوام القادمة، وهو "بـ100 وش".
رغم أن بداية المخرجة كاملة أبو ذكري كانت من خلال عمل كوميدي هو "سنة أولى نصب"، فإن الجمهور عرفها أكثر من خلال أعمال جادة وربما مأساوية مثل "بنت اسمها ذات" و"سجن النسا". الأمر نفسه ينطبق على نيللي كريم التي تعرف عليها الجمهور سابقاً من خلال مشاركتها في بعض الأعمال الكوميدية مثل "غبي منه فيه"، لكن شهرتها الحقيقية بُنيت على الأعمال الجادة. إذا انتقلنا إلى كاتبي السيناريو، أحمد وائل وعمرو الدالي فسنجد أنهما قدما معاً من قبل عملاً واحداً هو "الرحلة" والذي كان بعيداً كل البعد عن الكوميديا، وحتى الأعمال التي قدماها بمفردهما لم تكن كوميدية.
المقصود من السطور السابقة تبيان أهم ما قدمه هذا العمل، وهو إعادة الاعتبار لمفهوم الكوميديا، فالكوميديا فن ونوع مثل الكثير من الأنواع الأخرى في الدراما، ولا يجب التعامل معها باستخفاف، ولا يجب أن يتعالى الفنانون عليها، من منطق أن النجم هو من يُنجح العمل وليس السيناريو، هذا التفكير هو ما قاد الكثير من الأعمال الكوميدية مؤخراً إلى السقوط، النجوم يعتمدون على أسمائهم، ومن وراء الكاميرا يعيدون تكرار ما نجح من قبل دون تجديد.
يأتي "بـ100 وش" ليقدم مسلسلاً متماسكاً، بغض النظر عن نوعه، ففيه كل التفاصيل المطلوب توافرها في أي عمل درامي، تأسيس جيد للعالم وبناء واضح للشخصيات ودوافعها، ثم حبكة تجعل المشاهد متشوقاً لمتابعة حلقة وراء أخرى، ثم تأتي المخرجة لتتعامل مع الكوميديا بمنتهى الجدية، كاملة أبو ذكري تُخرج عملاً فنياً نوعه الكوميديا، وهذا الالتزام بمفهوم العمل الفني ربما هو ما ينقص الكثير من الأعمال الكوميدية الأخرى.
لا نعني بما كتبناه أن المسلسل مثالي وخال من الأخطاء، فقد لاحظ وكتب الكثيرون عن وجود تراجع في مستوى الحلقات في الثلث الثاني منها، ولكن هذا لا يمنع من إعطاء التجربة حقها في أنها محاولة لإعادة النظر لفن الكوميديا.
تواترت بعض الأخبار عن نية صناع العمل في تقديم جزء ثان منه، وهو خبر قد يفرح عشاق المسلسل، ولكن الفرحة الحقيقية ستكون لو حافظ العمل على مستواه في جزئه الثاني. من المرجّح جداً أن يكون "بـ100 وش" لفتة للكثير من صناع الكوميديا لإعادة النظر في ما يقدمونه، بالنظر إلى أن المسلسلات في مصر تراهن على الرابح وتخشى المغامرة، فإننا ربما نشاهد المزيد من المسلسلات التي تبتعد عن فكرة الحلقات المتصلة المنفصلة، وكوميديا الفارْس (المبالغة) إلى أشكال أخرى من الكوميديا تمزج الأنواع المختلفة، مثلما شاهدنا نوع السرقة (Heist) ممتزجاً بالكوميديا في "بـ100 وش".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.