منذ أن بناه جوهر الصقلي والأزهر الشريف له مواقف وأدوار، لا تُنسى على مر التاريخ، فمن محاربة الاحتلال، إلى الوقوف بوجه المُلوك والرؤساء، لإصدار الوثائق وإطلاق المبادرات. لكن جاء الإعلان عن وفاته في 10 من رمضان عام 2020 فی زمن وباء فيروس کورونا، في حملة إعلامية منظمة بدأت مع الإعلامي المصري عمرو أديب ثم مع الإعلامي أحمد موسي، وذلك بعد حادث تفجير بٸر العبد هذا الأسبوع في مصرع حوالي 10 من جنود القوات المسلحة۔ وطالب الإعلامي عمرو أديب من شیخ الأزهر الاستقالة لفشله في تجديد الخطاب الديني، وعدم تحمّل الأزهر مسؤولیته في محاربة الإرهاب، وحمایة شیوخ داخل المٶسسة الدینیة ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين وفشله في تنقية المناهج الدراسية التي تحضّ على الکراهیة داخل نسيج المجتمع.
البدایة کانت الخطبة الموحدة أول قطرة كشفت عن وجود خلاف بين السلطة الدينية والسياسية في مصر، لكن هذا الخلاف ظهر جلياً أثناء عتاب السيسي للدکتور أحمد الطيب، خلال احتفالات عيد الشرطة العام الماضي، فهذا العتاب كشف ما كان مستتراً من صراع بين النظام السياسي ومؤسسة الأزهر، وبات واضحاً احتدام الموقف بين الرئاسة وبعض الهيئات والمؤسسات كوزارة الأوقاف، وبعض علماء الأزهر المقربين من السلطة، في جانب، وبين المشيخة التي يبدو أنها تحاول التمسك باستقلالها في الجانب الآخر.
وبعد مقولة الرٸیس: تعبتني يا فضيلة الإمام. عتاب السيسي للدكتور أحمد الطيب، كان محاولة لاقتناص فتوى منه بعدم وقوع الطلاق الشفوي وضرورة ألا يتم سوى بتوثيقه لدى مأذون شرعي. وما هي إلا أيام حتى أصدرت هیٸة کبار علماء الأزهر بياناً أقرّت فيه وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانه وشروطه، وأكدت أن "هذا ما استقر عليه المسلمون منذ عهد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم"، فيما حذرت المسلمين من الاستهانة بأمر الطلاق، ومن التسرع في هدم الأسرة وتشريد الأولاد.
خلال عهد الرئيس السادات، كان الأزهر قلباً وقالباً مع السلطة؛ ففي بداية عام 1971 حدث شيء لم تكن له سابقة من قبل في تاريخ الأزهر، حيث اتفق الملك فيصل مع شيخ الأزهر وقتها الإمام عبدالحليم محمود على تمويل الأزهر باعتمادات تصل قيمتها إلى 100 مليون دولار، لكي يتولى شيخ الأزهر قيادة حملة دعوة ضد الفکر الشيوعية والإلحاد، ووضع برنامجاً إعلامياً كبيراً، وكتب بنفسه عدة كتب عن الشيوعية، ثم رتب لترجمة بعض الكتب في نفس الموضوع، كان بينها كتاب "الإله الذي هوى". كما تم بناء مساجد جديدة وصرفت مبالغ كبيرة على سفر وفود دينية تحمل تلك الدعوة بأموال الملك فيصل، وبمباركة من السادات نفسه. کان ذلك لضرب الوجود السوفييتي في الشرق الأوسط وبمبارکة أمریکیة.
في تلك الفترة كاد دور الأزهر الدعوي يتلاشى نسبياً بسبب ارتفاع منسوب تيارات الإسلام السياسي "الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية" التي كانت تغزو المساجد، وكل منها يبشر بأفكاره، فبدأ دور إمام المسجد يتلاشى شيئاً فشيئاً، وتم اختزال علماء الأزهر في أسماء معدودة كانت تقود الدعوة بين الناس، على رأسهم الشيخ محمد متولي الشعراوي.
وبعد وفاة الشعراوي، اكتشف الأزهر أنه لا يملك عدداً كافياً من العلماء يملأون الفراغ الذي تركه الشعراوي بين الناس كعالم ديني جليل "معجزة عصره"، فأخذ الأزهر يبحث عن شخصيات تمثل الدين الوسطي، وفي نفس الوقت تمتلك من الجماهيرية ما تجعل الناس يثقون بالمؤسسة العريقة، لكن ذلك أخذ وقتاً طويلاً، ما ساعد السلفيين والإخوان المسلمين على الانتشار أكثر في المساجد، وغاب معها الشيخ الذي يمثل الأزهر بفكره الوسطي.
وظهرت موجة الدعاة الجُدد ومنهم المتشددون "السلفيون" والوسطيون، لكن بأفكار سياسية فيما یعرف الآن بالإسلام السیاسي، ووجد المواطن المصري نفسه يسير بين هذه الموجات، وعزز من ذلك غياب شبه تام للأزهر، خصوصاً في أواخر عهد مبارك، وقت أن كان الدكتور سيد طنطاوي شيخاً للأزهر.
بعد ثورة يناير، فُتحت الساحة أكثر للتيارات السلفية والإخوان المسلمين كي ينشروا أفكارهم بين المواطنين، وأصبح المسجد لفترة تجاوزت 3 سنوات مكاناً للعراك السياسي وليس مكاناً للدعوة أو التعبد.
هذه الحالة أدرك تفاصيلها الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وفطن لها، فحاول أن يعيد للأزهر دوره الذي كان عليه كرمز للدين الإسلامي، وجاهد لكي يجعله مستقلاً عن أي سلطة أو توجّه سياسي، مهتماً بدوره الدعوي في مصر والعالم، وكانت تلك هي الرؤية التي اختلف معها النظام الحالي الذي أراد من الأزهر أن يعظ الناس "بنكهة وطنية سياسية داعمة له"، وهذا ما رفضه الطيب في كل معركة خاضها مع السلطة.
الطيب حمل على عاتقه استقلال الأزهر عن السلطة التنفيذية، ووقت ثورة يناير ضغط على المجلس العسكري لإصدار قوانين وتشريعات تضمن عدم المساس بمنصب شيخ الأزهر وسعى لتحصينه، وأصبح منصبه مستقلاً لا يقبل العزل، وأن يُختار شيخ الأزهر من بين هيئة كبار العلماء، ويعامل معاملة رئيس الوزراء من حيث الدرجة والراتب والمعاش.
لقد خاض الأزهر الشريف نضالات عبر تاریخه الطويل، بدءاً من الدفاع عن مصر ضد الحملة الفرنسیة. ويبدأ نضال شيوخ الأزهر ضد المحتل الأجنبي، في عهد الشيخ عبدالله الشرقاوي مع الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت، وكان الأزهر مركزاً للتظاهرات والمقاومة، فقصف بونابرت الجامع بالمدافع ودخل الفرنسيون بالخيول، ثم أغلقوه وجعلوه إسطبلاً للخيول، وبعد جلاء الحملة بايع الشرقاوي محمد علي والياً على مصر، مشترطاً العدل في حكمه، ولم يفِ بذلك، فاعترض الشيخ ليصبح مصيره النفي إلى دمياط.
وعارض شيخ الأزهر الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوي ما طرحه الملك فؤاد الأول حول إعلان نفسه خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية، مبرراً ذلك بأن مصر لا تصلح داراً للخلافة، لوقوعها تحت الاحتلال الإنجليزي، ورفض طلب الإنجليز إغلاق الأزهر بعد ثورة 1919، وصدر في عهده قانون تقييد سلطة الملك في تعيين شيخ الأزهر.
وتعد المواجهة التي حدثت بين شيخ الأزهر محمد المراغي والحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، نقطةً مضيئةً في تاريخ الأزهر، حيث رفض اشتراك مصر في الحرب، قائلاً: "لا ناقة لها ولا جمل لمصر في هذه الحرب"، ما أقلق الحكومة البريطانية وبعثت إنذاراً للحكومة المصرية بقيادة حسين سري باشا، والذي وجّه لوماً شديداً للإمام، فرد عليه قائلاً: "أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟ وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأي العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب"، فخاف رئيس الوزراء وحاول الإنجليز طلب رضا الإمام، خوفاً من إثارة المصريين، كما رفض طلب الملك فاروق إصدار فتوى تحرّم زواج الملكة فريدة بعد طلاقها.
بارك الأزهر ثورة يوليو وأيدها، وفي أعقاب حادث المنشية عام 1954، الذي شهد محاولة اغتيال الإخوان للرئيس جمال عبدالناصر، أصدرت هيئة علماء الأزهر بياناً استنكرت فيه انحراف جماعة الإخوان المسلمين، التي وصفتها بالعصابة الخارجة على منهج القرآن في الدعوة، وجاء في البيان، طبقاً لكتاب "الأزهر بين اتجاهين: القومي والإسلامي" للباحث أحمد عادل أبوسعدة: "قد شذ مَن هذه الجماعة نفر انحرفوا عن الجادة وسلكوا غير ما رسم القرآن فكان منهم تآمر على قتل الأبرياء وترويع الآمنين وترصد لاغتيال المجاهدين المخلصين وإعداد العدة لفتنة طائشة لا يعلم مداها في الأمة إلا الله".
في عام 1961، ومع صدور قانون تطوير الأزهر وتحويله إلى جامعة تدرس العلوم المدنية مع العلوم الشرعية كالهندسة والطب والعلوم، وقع صدام محسوس بين الرئيس عبدالناصر والأزهر، وكان عبدالناصر يستهدف بشكل أساسي مواجهة النشاط التبشيري في إفريقيا، وكانت فكرته قائمة على أن يبعث إليهم الأطباء والمهندسين والمدرسين الأزهريين، ليقوموا بالدورين معاً: الدعوة، وتلبية احتياجات الناس، كما كان يريد أيضاً مواجهة النشاط الإسرائيلي المتزايد داخل إفريقيا، لكن شيوخ الأزهر عارضوا مشروع التطوير، في البداية، ليس بسبب رؤيته وأهدافه، لكن لأن القانون الجديد أخضع الأزهر كمؤسسة، بشيخها وعلمائها، لمجلس الوزراء، وهو ما كان يحد من استقلالية المؤسسة الكبيرة كمنارة للعالم الإسلامي.
ورغم أن الأزهر اضطر لمواءمة سياسية في تلك الفترة، ما جعله يتماشى قليلاً مع توجهات السلطة وقتها، فإنه فيما يتعلق بالأمور الشرعية والدينية لم يقبل أن يقف عاجزاً، على سبيل المثال، حينما نشرت جريدة الأهرام القومية فصولاً من رواية "أولاد حارتنا" للكاتب نجيب محفوظ، إذ رأت مؤسسة الأزهر وقتها أن الرواية خادشة للحياء والقيم الدينية والإسلامية، وخاض الأزهر معركة كبيرة كي يمنع نشر فصول الرواية على صفحات الأهرام التي كان يرأس تحريرها محمد حسنين هيكل، صديق عبدالناصر، والمقرب من السلطة، وخاضت مؤسسة الأزهر الصراع لآخره، باعتبار أن الأمر يتعلق بالدين والشرع وليس السياسة، وكسب الأزهر قضيته في المحكمة بمنع نشر فصول الرواية في الأهرام. في عام 1961 تم إعادة تنظيم الأزهر لضبط موقع المٶسسة الاسلامیة في النظام السياسي.
هل يعيد النظام الحالي التاریخ ويصدر أو يضبط إیقاعاً جدیداً للأزهر الشریف؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.