ما الفارق بين الضحكة الحقيقية والضحكة العابرة؟ لماذا تبقى بعض الابتسامات علامة محفورة في أذهاننا، بمجرد استحضار الموقف أو حتى الموسيقى المصاحبة له نبتسم ونشعر بالارتياح، بينما هناك ضحكات عابرة، لا نتذكر حتى أننا ضحكناها من الأساس؟ الإجابة لدى هؤلاء الذين يتقنون صناعة الضحكات الحقيقية، وقد كان الراحل إبراهيم نصر واحداً من هؤلاء.
لا أحد ينسى تلك الابتسامة التي تلوح على الوجه بمجرد سماع تتر "الكاميرا الخفية"، أنا نفسي ما زلتُ أذكر بعض اللازمات التي قالها إبراهيم نصر في برنامجه قبل 20 عاماً بالتمام والكمال، "يا نجاتي انفخ البلالين عشان عيد الميلاد" أو "العقل زينة في الفاترينة"، بينما أعجز عن استحضار جملة واحدة من برنامج يفترض أنه كوميدي شاهدته بالأمس.
ربما لهذا شعرت بالحزن والفقد أو ربما الخسارة عقب سماعي خبر وفاة الراحل إبراهيم نصر، لكن لماذا؟ هو لم يقدم أية أدوار كوميدية تقريباً منذ برنامجه الأشهر الكاميرا الخفية، قبل سنوات طويلة، حتى أدواره الأخيرة وإن اكتست بقشرة كوميديا، إلا أنها تبقى في نظري درامية، سواء دوره في "إكس لارج" أو "فوق السحاب".. الحقيقة أنني فقدت ضحكة حقيقية أخرى من مخزون الضحكات الحقيقية في هذه الحياة.
رجل تحبه "الصدف"
لا توجد صدف في هذه الحياة، كل شيء مرتب مسبقاً، هذا هو يقيني، لكن الصدف بالنسبة لي ما هي إلا حظ جيد يرغب في إسعاد صاحبه، وهذا ما حدث طوال الوقت مع إبراهيم نصر، منذ سنوات عمره الأولى، فقد كان محظوظاً بتلك القدرة على إضحاك من حوله، التقليد المتقن لأقاربه، وتلك القهقهة التي ترتبط بظهوره في مجالسهم، جعلته يشعر بالثقة في نفسه للدرجة التي دفعته إلى فريق التمثيل بمدرسة عثمان بن عفان، في حي شبرا، بحيث بات يترأسه، وصولاً إلى الجامعة حيث نال عن مشاركاته بفريق التمثيل بها عدداً غير قليل من الجوائز والميداليات حتى تخرج في كلية الآداب عام 1972.
كانت الصدفة الأبرز في حياته هو ذلك اللقاء الذي جمعه بالشاعر بخيت بيومي، والذي كان في طريقه إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون "ما تيجي معايا في برنامج هاتعمل فيه دور درامي" لم يكذب إبراهيم الخبر وذهب بصحبة الرجل إلى برنامج الإذاعية أماني ناشد الذي حمل عنوان "عزيزي المشاهد"، حيث تألق إبراهيم لتبدأ رحلة انطلاقه في عدد من الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية.
لكن بداية دخوله إلى كل منزل في مصر، وتحوله إلى جزء من الذاكرة الجمعية للشعب المصري لم تبدأ إلا عام 1990، وكان ذلك بالصدفة أيضاً، حيث كان إبراهيم نصر في طريقة إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون لإنهاء بعض الأوراق حين قابل الرئيس الجديد للقناة الثانية المصرية عبدالمنعم غالي، كان الرجل قد حصل على الترقية لتوه، وكعادة الجميع أراد تقديم شيء مختلف، هكذا قاده القدر لمقابلة إبراهيم نصر، حيث اقترح عليه تقديم برنامج "يقعد الناس في البيت.. يتفرجوا عليه ويضحكوا" فكانت فكرة "الكاميرا الخفية" باقتراح من إبراهيم، لكن عبدالمنعم غالي لم يتحمس قبل أن يؤكد له إبراهيم "دي حاجة هاتكسر الدنيا".
مكالمة واحدة إلى سهير الإتربي، رئيسة الإذاعة والتلفزيون، خرجت على إثرها سيارة من مبنى الإذاعة والتلفزيون فوراً لتصوير الحلقات التي جاءت ارتجالية، وبالفعل حصل المراد، وضحك الشعب كاملاً من برنامج "انسى الدنيا" الذي "كسر الدنيا"، كما وعد صاحبه.
في العام التالي بدأ التعاون مع المخرج رائد لبيب، حيث حقق الثنائي نجاحاً باهراً لثماني سنوات متتالية، لكن وعلى الرغم من عدم تشابه أفكار الحلقات في الموسم الواحد، أو حتى المواسم التالية، شعر إبراهيم نصر بحاجته إلى التجديد، فراح يفكر في شخصية جديدة.
كلمة السر "زكية زكريا"
كانت نقطة التحول في حياة إبراهيم نصر -في رأيي- هي شخصية زكية زكريا التي ابتكرها من واقع معايشته لثلاث سيدات لهن صفات مختلفة جمعها هو في شخصية واحدة "إفيهاتها علقت مع الناس سنين كتير زي يا نجاتي انفخ البلالين عشان عيد الميلاد".
17 عاماً من الكاميرا الخفية، والتفرغ الكامل "كنت باتفرغ السنة كلها عشان الـ 33 حلقة بتوع رمضان والعيد، عشان كل حلقة تكون مختلفة عن التانية"، لكنه في النهاية اتخذ قراره الشخصي بالتوقف خوفاً من خسارة الأرضية التي حققها لدى الجمهور "ما بقاش فيه حاجة تانية تتعمل".
ماذا قال عنه صلاح جاهين؟
هل تعرف ذلك الشعور الطفولي بأنه ثمة أمور ثابتة لن تتغير أبداً، كان إبراهيم نصر بالنسبة لي ولطفولتي، وربما طفولة أبناء الثمانينيات والتسعينيات جميعاً، واحداً من تلك الأركان، ليس فقط لأدواره في أعمال الأطفال مثل تقليده للشخصيات الكارتونية الأربع في فوازير نيللي "الخاطبة" ولا أعماله للأطفال مثل "مارد الجبل" و"حكاية لها العجب"، ولكن لأن حتى أدواره العادية جداً كانت بارزة كما هو الحال في فيلم "شمس الزناتي"، كذلك دور الزوج الغيور في فيلم "الستات"، حيث ظهر كزوج أخرق لـ "فتحية بتاعة الآداب"، ورغم صغر الدور فإنه كان مميزاً، وصولاً إلى دوره البارز في فيلم الكهف، في العام الماضي وفيلمه المنتظر مع يسرا الذي لم يعرض بعد.
المميز في الأمر هو احترامه لسنه، وعلى الرغم من حرصه على ارتداء الباروكة ليبدو في عمر أصغر من عمره، فإنه احتفظ بذلك لنفسه طوال الوقت ولم يفرضه على المشاهد، الذي لم يكن يراه إلا في عمره الحقيقي وفي أدوار تناسب مرحلته تماماً.
مسيحي أنصفه رمضان
فوجئ الكثيرون عقب وفاة ابراهيم نصر بأن جنازته شُيعت من داخل الكنيسة وليس الجامع، لم يكن الكثيرون يعرفون ديانته، كما أنه لم يبدُ منه من قبل كلمة أو تصرف ينمّ عن هذا الأمر، فقد كان نموذجاً حقيقياً للمقولة الخالدة "الدين لله والوطن للجميع".
لكنه في الوقت نفسه ارتبط بأكثر من طريقة مع الشهر الكريم، ليس فقط من ارتباط الشهر الكريم مع برنامجه الأشهر الكاميرا الخفية، أو حتى أداؤه في فوازير نيللي، لكن الأمر مضى لأبعد من ذلك في الارتباط، عبر برنامج "مكسرات" خلال الشهر الكريم، حيث مقدمته المميزة "حالّو يا حالو، رمضان كريم يا حالو، ليه هاتكشر ليه تتعكر، ليه هاتخلي الدنيا عذاب، انسى همومك واسعد يومك تفضل طول عمرك فرحان، قول ويانا وغني معانا، مكسرات مكسرات".
ناهيك عن أنه قدم آخر أعماله التلفزيونية في رمضان الماضي، عبر شخصية "الدب"، الرجل المغلوب على آمره، الغائب عن الواقع، جعلك تكرهه وتتعاطف معه في الوقت ذاته، في مسلسل "فوق السحاب" 2018
لكن الرابط الأبرز بين إبراهيم نصر والشهر الكريم -في رأيي- جاء عبر فيلم "إكس لارج"، في تلك اللقطة التي لا أستطيع كبح دموعي خلالها في كل مرة، حيث يقف أحمد حلمي في شرفته يشاهد الجميع يتناولون طعام الإفطار معاً عبر الموائد بينما هو وحده يتناول "ساندويتش" في الشرفة شاعراً بالوحدة، فجأة يدق جرس الباب ويأتيه "خاله" إبراهيم نصر، حاملاً صينية دجاج بالبطاطس ويجلسان معاً لتناول طعام الإفطار وسط جو من البهجة والسعادة، حيث تأسرني في كل مرة جملته الأقرب إلى قلبي "انت كنت فاكرني هاسيبك لوحدك؟"، ليأتي الرابط الأكبر والأخير بوفاته في شهر الخير والرحمة، ليدعو له الصائمون، ويترحم الجميع على مَن أضحكهم وأبكاهم.
استعداده لشهر وفاته
وجه حميم آخر يغيب، كان واحداً من القلائل الذين استعدوا للحظة وفاتهم، تارة بنعي نفسه بنفسه عبر المشهد المبكي في فيلمه الأبرز "إكس لارج".
الرجل الذي كانت دموعه أقرب من أي شيء، كان في انتظار رمضان 2020، بلا شغف كبير "90% من اللي بيعملوا كوميديا دلوقتي بيعملوا كارثة، بيعملوا كل الأشياء اللقيطة والبذيئة، الناس بتتفرج على قطع إيدين ورجلين ورقبة، قال إيه دي كوميديا"، حتى أنه ظهر مع الإعلامي رامي رضوان قُبيل وفاته بشهر واحد ليتحدث عن استعداداته للشهر الذي توفي خلاله.
رحل الرجل فجأة، دون سابق إنذار، لكنه ترك خلفه تركة من الأعمال التي احترم فيها سنه والمشاهدين والدولة التي عاش فيها، أضحك الجميع وأبكاهم، فبكاه الجميع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.