نهاية الإنسان أم زمن ما بعد البترول؟

عدد القراءات
2,808
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/11 الساعة 19:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/11 الساعة 19:28 بتوقيت غرينتش

يبدو لي وأنا أتأمل في أحوال العالم أن الشاعر كان يقصدنا وهو يقول:

ـ فما الناس بالناس الذين عهدتهم …. ولا الدار بالدار التي كنت أعهد

ذلك بأن ظاهر النظر يبرز أن معهوداتنا السابقة تبدلت، وأصبحنا نعيش في دوامة مربـكـة وصمت قاتل، فالكل منهمك في توفير اللقمة، ومنتظر لخبر من هنا أو هناك لعله يظفر بإعلان فك السراح.

   وبينما الأمور تسير في هذا المضمار، إذا بنا جميعاً نشعر باهتزاز عنيف مرده لا إلى زلزال أو انجراف في التراب، وإنما إلى وضع القدم بشكل سريع وقوي على المكابح، حتى حدثت الرجة وبدا بعضنا متدحرجاً وآخر مشدوهاً، والكل منا لا يعرف ما حدث سوى ما سمعه من صوت المكابح القوي واحتكاك العجلات بالإسفلت احتكاكاً مرعباً، لا يشبهه إلا ما يعيشه العالم من فرملة الوباء المستجد لحركته وسيره.

   وكأني بدنيا الناس قد توقفت دورتها، لتستأنف دورة جديدة، لا على أساس البناء على ما سبق، وإنما للبناء على أساس جديد. إنها دورة جاءت بعد فرملة قوية شديدة مرعبة، أسقطت ما أسقطت، وأربكت ما أربكت، وحيَّدت ما حَيَّدت؛ وتلكم الدورة ليست إلا دورة الرقميات التي جاءت لتعلن عن هدم ثم بناء، هدم للمنظومات التي اعتبرتها تقليدية، بكل ما عرفته من ثقل وغنى ورواج، ثم بناء كون جديد يتنازل فيه الإنسان شاء أم أبى عن وجوده وكينونته لصالح منظومة رقمية لا ترحم، العالَمُ عندها مجرد أرقام بلا عواطف ولا عمق إنساني طالما سعى الأدباء والشعراء إلى بلوغه وبناء صروحه، ولنا في الشعر ودواوينه نماذج عديدة أقترح منها تائية "ابن الفارض" "نعم بالصبا قلبي صبا" وقصيدة "المقدمة" للشاعر الإنجليزي "وردزورث".

إن السعي الرقمي هو سعي إلى بناء منظومات ترغب في إعلان نفسها بديلاً عما سبق.

ولذلك لا يُستبعد أن يكون هو سبب جمود الاقتصاد العالمي في الآونة الأخيرة، ومن ثمة يستغله لتحقيق أهدافه الاستراتيجية.

  لقد برز جمود الاقتصاد العالمي هذا في عدة أشكال، لعل من أخطرها معاناة سوق النفط من الوفرة وتضخم العرض وانعدام الطلب أو قلته، إلى درجة أن النفط قد يصبح بلا مقابل ومع ذلك لا يُلتفت إليه أدنى التفاتة، هذا زيادة على أن مشكلة البحث عن مخازن له في البر والبحر تستدعي الكثير من التكاليف والنفقات. من أجل ذلك انهارت أسهمه وأسعاره في البورصات العالمية.

 ولا يخفى أن ذلكم الانهيار في الاقتصاد وفي سوق النفط خاصة، علامة على بلوغ التجارة فيه مرحلة الركود، بدليل أنها أصبحت تعاني من أزمات في التصدير والاستيراد مــع انقـلاب الأدوار فيـهما، وأزمـات أخـرى مرتبطــة بالمشاريـع المسـتـثمِـرة فيـه قديمها وجديدها، وذلك إذا نظرنا طبعاً إلى ما خلفته هذه المشاكل من آثار وخيمة على مناصب الشغل والالتزامات، ومراجعة العقود والشروط الجزائية، ومدى جاهزية القوانين لمواكبة المتغيرات…

         وضميمة لما سبق، فإن من العلامات الاقتصادية الدالة على نية المنظومة الرقمية إعلانَ نفسها بديلاً، ما نلاحظه مـن ملامـح انهيـار العملة النقديـة ولوائـــح (بلـوك تشين) وتوقف الملاحة والمواصلات وكل حركة كانت تخلق الرواج. كل ذلك يبعث على وضع سؤال " المابعد".

   إن العالم كان دائماً محكوماً بصراع القـوى وتوازناتها، وتدبيـــرُه كـان مـناط تفــاوض ومناورة بين أصحاب الحيازة التي يبدو أن مآلاتها قد صارت إلى من يملك السلطة الرقمية، حتى إذا انهارت الاقتصادات التقليدية والشائعة لصالح الاقتصادات الجديدة التي يسعى إليها من يريد التسلط على العالم، أعلن هذا المتسلط نفسَه المُخَلِّص الذي لا مفر منه، إلى درجة أنه قد يدفع بمكره عدة دول إلى تعليق لافتة للبيع لعدم قدرتها على مواكبة ما استجد من قوة خارقة في الرقميات (الجيل الخامس مثلاً).

 وهكذا ستضطر كثير من الدول إلى تفويت مؤسساتها الحيوية الاقتصادية إلى مُلاك التقنية الرقمية لتصبح هي نفسها تحت الهيمنة ولا قدرة لها على الحراك، حيث ستصبح بلا اقتصاد ولا قوة تعيد إحياءها وإحياء حركتها من جديد، وبذلك تضيع بضياع امتلاكها قرارها، بل إن عدم قدرتها على مسايرة عمليات البيع والشراء في طابعها الرقمي، سيفقدها جاهزيتها في الإبقاء على أنساقها الجمركية القديمة، وذلك بسبب خضوعها لعملية تفكيك كبرى تفقدها قوتها على التصرف، بمعنى أنها ستعيش مرحلة ذهول أو غيبوبة اقتصادية لا تستفيق منها إلا وهي مفترَسة.

   ما أشبه هذه الرقميات الجديدة بعمل الفيروس، فإذا كان هو يستولي على (الشيفرة) الوراثية للخلية ويُكَيِّفها حسب أهدافه، فإن الرقميات تقوم بالاستيلاء على (الشيفرة) الوراثية للدول والمجتمعات والإنسان عامة وتكيفها حسب أهدافها أيضاً، وهنا سيبدأ الإنسان في الانسحاب من مواقعه ويتنازل عنها لصالح الرقميات، التي سيعتبرها في البداية بحكم الذهول الذي أصابه فتحاً عجيباً لقدرتها على الرفع من كفاءته والتوغل في العالم الخارجي توغلاً لا مثيل له في التاريخ، فالصحة ستنظمها الرقميات، والمرور كذلك ومنظومة المدينة والمجتمع بعامة، ولن يستفيق الإنسان إلا على خروجه من الطبع الإنساني ليُشَيِّدَ دخوله في النسق الرقمي، وحينها سيجد نفسه تحت وصاية هذا النسق الذي ظنه في أيام خلت مجرد امتداد لسـلطانـه على الطبيــعة، لـكـن الواقـع، أن الإنسـان أَفْقَــدَ نفْسَـه قدراتــه ومهاراتــه وجاهزياته في التعامل مع الحياة، ذلك بأن الرقمية أصبحت تقوم بكل أعماله كما يفعل الوصي مع أوصيائه، ومعنى ذلك أن الإنسان يعترف ضِمْناً بأنه أصبح إما في حكم القاصر أو السفيه، وإلا لما احتاج إلى وصاية الرقميات عليه.

   انطلاقاً مما سبق، يتضح أن الإنسان سيتنازل عن كينونته وحريته، فبقدر ما تمنحه الرقميات من القدرات ستنزع عنه من الحريات، لأنها تقنية تفرض منطقها بحكم كونها تملك سلطة الوصاية، ومن منطقها أنها تترجم العالم إلى أرقام، ولا ترجمة تمارسها دون امتلاك المعلومة دقت أم جلت، وهكذا ستسعى إلى أن تنزع عن الناس خصوصياتهم وحَميمِيّاتِهم بعيداً جداً عن أدنى اعتبار لحق الكرامة أو الحرية.

 ولأجل ذلك، قد يكون البطل في رواية "الحصن الرقمي" لـ "دان براون" قد سعى إلى وضع برنامج تشفير لحماية الناس من قوارع الرقميات وآفاتها. يتضح هذا أكثر بالنظر إلى أن البحث العلمي قد انتقل من فضاء الجامعة إلى فضاء المقاولة التي لا تبحث عن شيء بحثها عن المعلومة المُكسِبة والمربحة، ومادام الأمر أصبح ربحاً وسوقاً فلا مجال للحديث عن منظومة القيم والبعد الداخلي للإنسان، والشاهد على ذلك، محاولاتٌ من هنا وهناك زرعَ شرائحَ رقميةٍ في الإنسان وفي خريطته الوراثية و(جيناته)، بمعنى أننا سنجد أنفسنا يوماً أمام شركات تعرض خِدْماتِها لإنتاج كائنات بمواصفــات مخصوصة، كنـوع الذكــــاء ولون البشرة وطول القامة، وكل وصف يزيد أو ينقص بحسب مقدرتك على الدفع.

   وهكذا بدل أن يجتهد الإنسان في الخروج من الوصاية يزيد في تكريسها، إلى أن يصبح شيئاً ويَفقِد المعنى ويغرق في العدمية، وحينها يصبح له حكم الأشياء ويضيع تاريخه أمام واقع جديد كنا نظنه مجرد خيال علمي تبثه أفلام كانت في الحقيقة ترسم أفقاً خارج التاريخ غاب عنا، من أمثال (فيلم المبيد أو ذا تيرميناتور) الذي شخص حكم الآلات للعالـم وسعيها إلى إبادة الكائنات البشرية، أو (فيلم ذا ماتريكس) ذلكم العالم الافتراضي الذي تعمل فيه الكائنات الرقمية على تدجين الإنسان والسيطرة عليه وتغيير هُويته عن طريق وضع أدوات رقمية داخله وتحويله هو نفسه إلى مصدر طاقة للرقميات بواسطة برنامج افتراضي.

   وعليه، قد نجد أنفسنا يوماً في صراع وجودي، بين وجود الإنسان الطبيعي وبين وجود الكائن الذي زرعت في (جيناته) شرائح رقمية، يمكن أن نطلق عليه اسم الكائــن الرقمـــي، ومادام هذا يملك قدرات فائقة، فسيرى في الإنسان الطبيعي عبئاً ثقيلاً يجب التخلص منه، فهو ضعيف ويتحدث عن عوالم داخلية، كالقيم والكرامة والمحبة والحرية والتضحية، لا حضور لها في عالم الرقميات.

   إن حديث بعض المفكرين في كتاباتهم عن الإنسان والذكاء الصناعي، ووضعهم أسئلة من قبيل (ما سبب استغناء المستقبل عن البشر؟) لنذير من النُّذُر التي ينبغي أن يتأملها الإنسان قبل الوقوع حقيقة تحت وصاية الرقميات، خاصة وأننا لاحظنا أن الإنسان أصبح يفقد مجاله العام وحميميته الخاصة ليسجن نفسه داخل غرف افتراضية يظن أنه يمارس فيها حريته، في حين أنه يفقد عمقه وحقيقته.

   وقبـل الختـام، فإننــي لأرجو ألا يفـهم القــارئ أن في كلمتـي رفضاً لتـطــور الإنســان واستفادته من مخرجات العلم الحديث، ذلك بأن التطور لا بد أن يكون قاصداً، ولا قصدَ دون ملاحقةٍ للمعنى الذي به يحـس الإنسان بكينونته وسر وجوده، إحساساً يبعثه على الاقتصاد في سيره، حتى لا يشتط فيصبح محكوماً بالتقنية الرقمية بدل أن كان لها حاكماً، كما يبعثه على طلب الحكمة في سعيه، حتى لا ينزلق ويفقد المكابح في الطريق، فيصبــح وعالمه مجرد سوق ممتازة أو فندق فخم كبير بمواصفات مخصوصة تحضر في كل مكان وزمان تُفقِد البشر حسهم الجغرافي ووعيهم بالتاريخ وتنوعه الحابـل بالوهــب والعطاء والمعنى، ذلك بأن الإنسان هو مجموعـة من القيـم والمهارات التــي تتفاعل مــع المكــان والزمان بكل خصوصياتهما فتبصمهما ببصمة الخير أو الشر بحسب قدرته على هذا التفاعل ودرجة قوته، لكن حينما يصبـح الإنسان متشابــهاً كتشابــه تــلكم الفنادق الفخمــة أو الأسواق الممتازة، فهذا يعني أننا قد دخلنا به إلى طور الرتابة الآلية والحتمية التقنية التي تلغي الشخصية الإنسانية بكل أبعادها الدالة على الحرية والاختيار، ومعلوم أن الإنسان لا يحقق وجوده إلا عبر قدرته على الاختيار بين الخير والشر، وتحمل مسئوليته الخلقية في التفاعل السابق، بعيداً عن كل برمجة مسبقة تنزع عنه هذا الامتياز فلا يكون إنساناً لأنه قابع تحت الوصاية التي تفرض عليه الاتجاه الواحد والوحيد.

   إن الأصل يقتضي أن تكون المرجعية قيمية تنفتح على أفق أرحب وأعلـى من الإنسان و الطبيعة والصناعة، حتى يستمد منها، وفي الوقت نفسه يمتلك القدرة على التوليف بين الغيب والتاريخ توليفاً يعطي لهذه التركيبة صورةً للمسئولية الأخلاقية في العالم، مع العلم بأن هذه الصورة تختلف باختلاف التفاعل ومغذياته الثقافية، وينبغي ألا ننزلق بحكم المداهمة الرقمية لنا إلى اعتبار الرقميات قيمةً نهائية، وضرورةً لا محيد عنها فرضتها طبيعة التطور، لئلا تتحول إلى مقولة مطلقة جديدة لا تتحمل مسئوليتها الخلقية في حركتها داخل العالم، مثلاً في حالة ارتكبت السيارة الرقمية حادثة سير، من سيتحمل المسئولية؟

السائق؟ أم البرنامج الرقمي؟ أم…؟، وادعاء أن الرقمنة تنظيم دقيق للعالم لا يعطيها مشروعية التحكم في الإنسان، فالجريمة مثلاً قد تكون منظمة بدقة، ومع ذلك لا يضفي عليها هذا التنظيم الدقيق مشروعية، ولا ينفي عنها صفة الجرم.

   هكذا ينبغي أن نفهم التطور، لئلا نؤدي أثماناً باهظة على حساب إنسانيتنا، ولكي لا نغرق كما غرقت سفينة (التيتانيك) بالرغم من قوتها وصلابتها، إذ لم يغنها ذلك من شيء حين واجهت مصيرها المأساوي بين الأمواج العاتية، وساعَتَـئِـذٍ تَنادى ركابها إلى النجــاة ولات حين مهرب، لأنهم وصانعي السفينة من قبلهم كانوا قد غرقوا في غمرة الغرور بما صمموا وصنعوا وشيدوا، حتى ادعوا أن قوة السماء نفسها ليست بقادرة على إغراقها، فأبحروا بأمان، وبعزة ما للتقنية من قوة وسلطان، فلم يستفيقوا إلا على الواقعة التي وقعت على قلوبهم قبل جسومهم، لكن من منهم سَيُصِرُّ على أخذ المخطوط قبل أن يستقل قارب النجاة.  ذلكم المخطوط الذي كان داخل صندوق حديدي محكم الإغلاق في (تيتانيك) روايةِ "سمرقند" لأمين معلوف، لم يكن إلا مخطوط "رباعيات الخيام"، فلعل أحدهم أن يظفر به ليفتح الإنسان على عالم المعنى قبل أن يتيه في ملتقى البحرين الذي جعل منه وليد سيف عنواناً لإحدى رواياته، حيث صور في حدث من أحداثها موقف الحيرة الذي عاشته البطلة وهي تسعى باحثة عن مكان آمن لها بعد أن فشلت في إنقاذ إنسان زمانها، إذ سألها خادم مُخْلِصٌ من الخادمين اللذين كانا معها في طريقها: "إلى أين المسير؟ فأجابته: سنعرفه حين نبلغه".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد الصباني
باحث وأكاديمي من المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها
باحث وأكاديمي من المغرب، حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها
تحميل المزيد