الإيمان محله القلب.. ما علمنا إياه رمضان في زمن الكورونا

عدد القراءات
2,189
تم النشر: 2020/05/11 الساعة 10:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/11 الساعة 10:56 بتوقيت غرينتش

حسناً، إنه الثلت الأول من مايو/أيار ٢٠٢٠م، ونصفٌ قد انقضى بالفعل من رمضان ١٤٤١هـ، الوضع الآن أصبح مشابهاً لإحدى ألعاب الفيديو، تلك التي تجسِّد نهاية العالم حيث يرتقب الناس بحذرٍ وخوفٍ شديدين مآل ذلك الشيء الصغير الذي أقلق معيشتهم وحياتهم؛ فيروس كورونا. ربما لن أتطرق هنا للحديث عن المرض وعلاجه والآثار المادية والمعنوية المرتبطة به، لكني سأتناول الوضع الراهن على وجهين: أحدهما هرع المجتمع الغربي على وجه الخصوص إلى البحث عن مخرجٍ من ذلك الرعب الذي بدأ بالفتك به أكثر من الشعوب الأخرى، والآخر هو استقبال المسلمين شهر رمضان هذا العام بكل أسىً في وجود ذلك المرض.

أما الوجه الأول، فقد كشف عن هشاشة ذلك المخلوق البشري الضعيف، الذي طالما قدَّسوه وعظَّموه ونصَّبوه إلهاً بذاته، فلطالما تغنى الرجل الأبيض بسطوة المادة ومركزية الإنسان على الأرض، وأنه في يومٍ ما سيصل البشر بالعلم، والعلم فقط، إلى السيطرة على هذا الكون ومعرفة أسراره بل والتعديل فيه. لذا كان التوجه دائماً إلى تبني الفردانية على مستوى الأفراد والمجتمعات، وكذا النفوذ السياسي والاقتصادي وفرض السيطرة على الموارد البشرية والطبيعية، وذلك لخلق إنسان بروحٍ آلةٍ، يسمع ويطيع، ولا يبحث عن معنى لوجوده باعتباره هو الناتج النهائي للتطور. وعندما ظهر الفيروس وانتشرت قصصه المروعة، لم يجد بدّاً من الالتفاف بالدعاء إلى الرب لكي يخلصه من وحشية ذلك الكائن.

وفي ظل تلك العقائد والأفكار التي ينتهجها الغرب من قديم الزمان، تلاشت عنده أبسط القيم الاجتماعية والإنسانية التي يصدِّرونها جهلاً للشعوب الأخرى، ويتلقَّاها العرب والمسلمون على أنها دستورٌ قويمٌ للإنسانية. ربما الآن اتضحت الصورة وبدأت تنجلي ضبابيَّتها، ففي حين يلهث الأطباء والمنظمات والشعوب لدرء ذلك الوباء، فهناك بعض الحكومات التي تتبنى فكرة التضحية بنزول الناس إلى الشارع وعودتهم إلى أعمالهم خوفاً من تدهور الأوضاع الاقتصادية، وفصيلٌ آخرٌ فرحوا بقدومه لأنه بمثابة الخلاص من كبار السن؛ حيث إنهم أكثر عرضةً للموت دون الشباب الأصغر سنّاً، باعتبار أنه قد انتهت خدمتهم وآن الأوان لرحيلهم وفسح المجال للشباب من أجل فرصٍ أفضل للعمل والاستقرار. ربما إذا بحثنا في تعاليم ديننا، سنجد أحكاماً وشرائع تحثُّ على قدسية النفس وأولوية رعايتها والحفاظ عليها، وكذا رعاية كبار السن والتكفل بهم لأنهم ميراث الخير للأمة، وبسواعدهم قد قدَّموا واجبهم تجاهها، وآن وقت رد الجميل إليهم.

أما الوجه الثاني، ومع قدوم رمضان، بدا على المسلمين حزنٌ شديدٌ لأنهم، وللمرة الأولى، افتقدوا روحانيات رمضان المعهودة، تلك التي تخلل قرآن المغرب قبل الإفطار، وتجمعات العائلة والأقارب على ذات المادة، وتزيين الشوارع "بموائد الرحمن" التي يفطر بها الصائمون والمغتربون عن بلادهم وديارهم، بل ويجتمع بها المحيطون حبّاً في تشارك بهجة الإفطار الجماعي. لقد افتقدنا تجمعاتنا في الساحات والمساجد لصلاة القيام، وبكاءنا خلف دعاء الإمام، ثم انتشارنا في الساحات والشوارع والميادين قبيل الفجر، فيتجمع الأصحاب والأحباب على السمر والسحور وحلقات الذكر والتهجد وتشارك الذكريات والحكايات.

رمضاننا مختلف هذا العام، فتزامناً مع مجيء الفيروس القاتل، أصبح المسلمون أكثر رعايةً وتماسكاً لبعضهم البعض، ويحاول الجميع الالتزام بالضوابط والتعليمات رغم حزنهم الشديد على العادات والطقوس الرمضانية التي افتقدوها، داعين الله ألا ينقضي رمضان هذا العام إلا ومعه انجلاء المرض. تجتمع الأسرة على مائدة الإفطار بعد أذان المغرب، فيتشاركوا الأخبار عن المصابين الذين نجوا وخروجوا من عَزلهم المؤقت، ويتقصّون أنباء أحبابهم وذويهم العالقين في الخارج، ويدعون بصمتٍ أن يفك الله ذلك الكرب عن قريب.

وعند العشاء، يؤمُّ رب الأسرة زوجته وأولاده في مشهدٍ غير مكررٍ كل رمضان، فيجهزون المصلَّاة ويهيئون المكان ليصبح كالمسجد الصغير، ثم يصلون التراويح في صالة المنزل وبجانبهم الصغار يلعبون ويمرحون في محاولةٍ للشعور بروحانية الشهر في ظل هذا البلاء. وبعدها تبدأ جلسات من السمر والضحك والسخرية من الأوضاع ومحاولة للتخفيف من حدة الموقف الراهن والتذكير برحمة الله وقدرته. وما أن يرتفع قرآن الفجر، فيعدون سحورهم وينتظرون الأذان للصلاة ويتبعه قراءة الورد الصباحي، ثم انتظار الشروق والدعاء لجميع المسلمين بالستر والعافية والفرج.

وأما حالي فمختلفٌ قليلاً، فأنا ضمن أسرةٍ مكونةٍ من أربعةٍ أفرادٍ نعيش هاهنا في شمال مصر، خامسنا أخي الأوسط عالقٌ في الخارج، تحديداً في بلاد الحرمين وأحب البقاع إلى الله، ومنتظراً عودة الوظائف وكذا الناس إلى أعمالهم أو الإجازة المؤقتة. أما بيتي فمعزولٌ بجانبه عن الناس؛ فيقع على طريقٍ رئيسيٍّ يربط بين مدينتين في ضواحي إحداهما وبداية الريف، لذا فنحن في الأصل قد اعتدنا العزلة وتكيفنا معها، فلم نشعر كالآخرين بوحشة الحظر وبطء الوقت وتعاسة الملل الذي يصاحبه. لكننا ومع تشاركنا الحزن على أجواء رمضان التي افتقدناها كحال جميع المسلمين في بقاع الأرض، لكننا نحاول جاهدين أن نتعامل معه هذا العام كأنه اختبار من الله، كأنه تدريبٌ شاقٌّ لنفوسنا التي اعتادت عبادة الطقوس والروحانيات لا الشعور بالعبادة في أصلها، فتلك العزلة والاعتكاف هو الذي يكشف لبَّ النفس وصبرها وتحملها ودرجة إقبالها على الله وذكره وحسن عبادته، وكذا قراءة القرآن كأنه وحيٌّ منزلٌ علينا خاصةً فنتلقاه كما تلقاه رسولنا الكريم في بداية النبوة.

إنها تجربةٌ فريدةٌ من نوعها وتحمل نقيضين من تصرفات البشر وتعاملهم مع الجائحة: جانبٌ يبحث عن المصلحة الفردية للطبقة التي يعيش فيها غير مبالٍ لحياة القطيع من الناس، وجانبٌ يستوضح سماحة الإسلام وشرائعه فكان رمضان شاهداً على ذلك، واختباراً للمسلمين على الصدق والصبر والرضا والتكاتف، وتذكيرهم بشكر المتاح من نعم الله التي لم يكن يتوقعون زوالها فجأة؛ روح المساجد، وصلة الرحم، والشعور بالمريض والعجوز الملازم لفراشه، وقيمة العمل والخروج والمشاركة الاجتماعية. تجربةٌ ستعيد ترتيب الأمور لدى الكثيرين، فتربي فيهم روح المشاركة والمساعدة ونشر الخير فيما بينهم، ونبذ التفرق والتشتت. تجربةٌ أثبتت أن الإيمان محله القلب، وأن الله سميعٌ قريبٌ حاضرٌ في كل مكانٍ وزمانٍ، وأن أضعف مخلوقاته قد يكون رسالةً لكل البشرية؛ "وخلق الإنسان ضعيفاً".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالرحمن القلاوي
كاتب ومدون
كاتب ومدون في عدة مواقع ومنصات إلكترونية. مواليد محافظة البحيرة - مصر فبراير/شباط ١٩٩١م، وحاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة ٢٠١٩م.
تحميل المزيد