بعد انتصار الثورة العباسية، وأفول الدولة الأموية وسقوطها في عام 132هـ/750م، أخذ أنصار بني العباس في تعقُّب كل من كان مؤهلاً لأن يشكِّل على الدولة الجديدة خطراً من رجال بني أمية وأمرائهم، فظفروا بعدد كبير منهم وقتلوهم، إلا قلة منهم شاء الله أن تنجو من سيوف المسودة، وكان منهم أحد أحفاد الخليفة هشام بن عبدالملك، وهو عبدالرحمن بن معاوية بن هشام، الذي هرب من مستقرّه في دير خنان من أعمال قنسرين في الشام إلى بعض قرى العراق بالقرب من الفرات، وقد تعقَّبته خيول بني العباس وعيونهم، فعبر الفرات مع أخيه هشام سباحةً، فنجا هو بينما لم يقدَّر لأخيه هشام النجاة فقد قتل، ثم تابع مسيره فارّاً في رحلة طويلة شاقة وعجيبة، لاقى فيها من الأهوال والمصاعب ما يصلح لأن تحكى قصته وتروى في عجائب الحكايات والمرويات، ووصل أخيراً إلى مراده، فبلغ المغرب الأقصى ونزل عند أخواله نفزه من قبائل البربر، حيث إن أمه منهم (السرجاني،2011، 137-183).
نشأ عبدالرحمن أميراً في بيت الخلافة الأموي، وقد رأى فيه مسلمة بن عبدالملك معالم الإمارة والرئاسة وتوسَّم فيه خيراً. حتى إن عبدالرحمن سمع ذلك منه مشافهةً، فزرع ذلك في نفْس عبدالرحمن الثقة والطموح (السرجاني،2011، 137). ولذلك فبعد وصوله للمغرب يمَّم وجهه شطر الشمال نحو الأندلس، وكانت الأندلس في ذلك الوقت قد أهلكتها وأنهكتها الصراعات والنزاعات والفتن بين مختلف الأعراق والطوائف فيها، ولم يستطع الولاة المتعاقبون تأسيس نظام مستقر وقوي لكيان الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، مما أعطى الفرصة لبعض المتمردين النصارى في الشمال فوسَّعوا مناطق نفوذهم وأسسوا مملكة صغيرة تتموضع في منطقة جبلية في أقصى شمالي الأندلس وهي مملكة أستورياس، التي أصبحت مركزاً لمقاومة الحكم الإسلامي والإغارة على المناطق الإسلامية المجاورة.
وكل ذلك شجع عبدالرحمن على التوجه إلى الأندلس والمطالبة بالحكم فيها، فهو أمير أموي فارٌّ، لا أمان له إلا بالحكم فالكل يتعقبه ويخشى أن يدعو لنفسه، وهذا حال الأمراء وأبناء الأمراء في أحكام ذلك الزمان، فإما أن يكون لهم الصدر أو القبر. والأندلس بلد إسلامي فُتح في عهد أجداده الخلفاء من بني أمية، وهو بحاجة إلى حاكم ذي شرعية قوية يجتمع الناس عليه ولا يختلفون على أحقيته في الحكم والسيادة عليهم. وهكذا فإن عبدالرحمن بحاجة للأندلس والأندلس بحاجة إلى عبدالرحمن.
فبعث مولاه بدراً إلى جماعة من موالي بني أمية في الأندلس ورؤسائهم، وأهمهم ثلاثة: أبوعثمان عبدالله بن عثمان، وعبدالله بن خالد، ويوسف بن بخت. يسألهم أن يؤمِّنوا مأوىً كريماً لعبدالرحمن وذويه. وقد عرف هؤلاء مقصد عبدالرحمن ورغبته في ولاية الأندلس وحكمها، فهو لن يكتفي بالجلوس والخمول ولن يقنع بذلك، فهو لا يستطيع ذلك أصلاً، فرأسه مطلوب في كل مكان. وفي حقيقة الأمر فقد وافق هوى عبدالرحمن هوى موالي بني أمية وموالي قريش، وكان هؤلاء الموالي من خيرة مسلمي الأندلس، ولهم خبرة وباع في حكمها وإدارتها من أيام الفتح (مؤنس،1997، 288).
بدأ موالي بني أمية في الدعوة إلى عبدالرحمن، فتوجهوا إلى الصميل بن حاتم الذي كانت القوة الحقيقية في يده رغم أن والي الأندلس هو يوسف الفهري، فلم يجدوا غايتهم عنده، ثم كلَّموا فيه شيوخ اليمنية الناقمين على يوسف الفهري والصميل بن حاتم ذوي العصبة القيسية، فاستجاب اليمنية له ولدعوته، خصوصاً عرب غرناطة، فأرسلوا في دعوته. وقد عبَر عبدالرحمن إلى الأندلس فعلاً، فوصل غلى "فرضة المنكب" بغرناطة في الخامس عشر من رمضان لربيع 137هـ/754م، فانتقل إلى "طرش" ونزل عند يوسف بن بخت، حيث اجتمع أنصاره وأشياعه هناك (مؤنس،1997، 289). ومن هذه اللحظة فقد أصبح عبدالرحمن بن معاوية بن هشام، عبدالرحمن الداخل، لكونه أول من دخل من بني أمية إلى الأندلس.
وصل خبر عبدالرحمن إلى يوسف الفهري والصميل وهما بالقرب من طليطلة، وذلك بعد طريق عودته من سرقسطة بعد أن قضى على تمرد ضد حكمه هناك. فأسرع في السير إلى قرطبة ووصل إليها وكان ذلك في عام 138هـ (عنان،1997، 136). ثم خرج يوسف إلى المصارة في ظاهر قرطبة من الغرب، على ضفة نهر الوادي الكبير، بينما عسكر عبدالرحمن وأنصاره على الضفة المقابلة للنهر. وبعد أن مكث الجيشان ثلاثة أيام، تأهبا للحرب في اليوم الرابع، فأمر عبدالرحمن عسكره بعبور النهر في يوم الخميس، التاسع من ذي الحجة، ونشبت معركة عنيفة على قصرها بين الفريقين، ورغم التفوق العددي لفرسان يوسف وجنده، فإن التشتت قد أضعفهم، بينما كانت الحماسة والعزيمة تشتعلان في نفوس جند عبدالرحمن، فلم يأتِ الضحى حتى هُزم جيش يوسف هزيمة شديدة، فتمكن عبدالرحمن من دخول قرطبة دون مقاومة تُذكر بعدها، وبويع له بالإمارة في العاشر من ذي الحجة سنة 138هـ (عنان،1997، 154).
وقد كان لعبدالرحمن عدة مواقف أبدى فيها من الصفات والخلال الحميدة التي تؤكد أنه رجل دولة مسلم من الطراز الرفيع، فلما بدأ اليمنيون يتجهزون لملاحقة فلول جيش يوسف الفهري وأتباعه، بقصد الغنيمة والثأر لوقائع كانت قد نشبت قبل ذلك بينهم، منعهم عبدالرحمن بن معاوية قائلاً: "لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم"، يقصد بذلك أن هؤلاء وإن قاتلناهم، فهم إخواننا في الدين نستبقيهم لقتال الأعداء الحقيقيين من نصارى استورياس وليون وفرنسا وغيرها. وهذا يدل على ترفُّع عبدالرحمن عن العصبية، وأنه رجل دولة لا رجل قبيلة، وأنه كان ينوي بناء دولة قوية للمسلمين في الأندلس تحقق الاستقرار وتعلي راية الحق والجهاد، وتقضي على الخطر القادم من الشمال. ومما يدل على أخلاقه الرفيعة وترفعه عن الحقد والغل، منعه لبعض المقاتلين الذين حاولوا نهب قصر يوسف وأملاكه وسبي أهله وحريمه، فأعطى الفرصة لأهل يوسف أن يجمعوا متاعهم ويغادروا في ثلاثة أيام، فكانت هذه بداية طيبة لسيرة طيبة (السرجاني،2011، 147-148).
ثم بدأ عبدالرحمن الداخل تنظيم أمور الأندلس، فتوطيد الدولة أصعب من تأسيسها، خصوصاً في بلد أهلكته الفتن الطويلة، فقد قضى فترة حكمه في القضاء على الثورات والفتن في أنحاء الأندلس كافة، وتمكَّن من ذلك فأخمدها واحدةً تلو الأخرى بعزم وحزم عجيبَين. فجعل دولته الفتيَّة دولةً قوية مرهوبة الجانب (السرجاني،2011، 150).
وقد أثبت الداخل نفسه كأمير على البلاد، فسرعان ما تعرَّف على أهلها وعرف أرضها، ومنها عرف كيف يسوسها. وظهرت مواهبه وصفاته القيادة كحسن السياسة والتدبير والحزم وبُعد الهمة. فبدأ في التأسيس لإدارة مركزية قوية اعتمد فيها بالدرجة الأولى على موالي بني الأمية؛ حتى يغلق الباب على عصبيات القبائل العربية التي أهلكت البلاد والعباد، فأسس دولة لجميع الرعايا، تقف على قدم المساواة من العرب والبربر والسكان المحليين منهم. وقد ظن اليمنيون أن الدولة قد سقطت في أيديهم بعد انتصار عبدالرحمن، فيكون لهم الحكم على الحقيقة من خلال الأمير الأموي الذي نصَّبوه، لكنهم فوجئوا بأن الدولة الجديدة لا تفرِّق بين قيسيين ويمنيين، ولا عرب وبربر، ولا بين أهل البلاد المحليين (مؤنس،1997، 299-300).
ولعل أبرز وأخطر الثورات ضده، هي ثورة العلاء بن مغيث الحضرمي الذي رفع السواد ودعا للعباسيين بعد أن تواصل مع أبي جعفر المنصور، فأرسل إليه المنصور سجلاً يولِّيه على الأندلس، فدعا لنفسه في باجة وجمع حوله أنصاره من الفهرية واليمنية، فكثر جمعه وحشده. فخرج الداخل بجيشه للقائه وتحصن في قرمونه، فضرب عليها العلاء الحصار، ولما طال أمد الحصار، انفضَّ بعض عسكر العلاء عنه، وانتقل عبدالرحمن من الدفاع إلى الهجوم فباغت جند العلاء وهزمهم هزيمة منكرة، فقُتل جمع منهم، وكان العلاء بين القتلى (عنان، 1997، 162).
لقد اعترف بصفات عبدالرحمن الفذة البعيد والقريب، والعدو والصديق، وممن شهد له بذلك عدوه الخليفة العباسي أبو جعفر، والحق ما شهدت به الأعداء، فهو من أعطاه لقب "صقر قريش"، فقد رُوي أن أبا جعفر قال لجلسائه ذات يوم: "مَن صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء. فقال: ما قلتم شيئاً! قالوا: فمعاوية؟ قال: لا. قالوا: فعبدالملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئاً. قال: يا أمير المؤمنين، فمن هو؟ قال: صقر قريش عبدالرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلداً أعجمياً، منفرداً بنفسه، فمصّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكاً بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته، إن معاوية نهض بمركبٍ حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه، وعبدالملك ببيعة أبرم عقدها، وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته، وعبدالرحمن مفردٌ بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، ووطَّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذلَّ الجبابرة الثائرين. فقال الجميع: صدقت والله يا أمير المؤمنين" (السرجاني،2011، 153).
هذه هي قصة هذا الأمير الفريد في التاريخ الإسلامي، لقد جعل الأندلس دولة قوية مرهوبة الجانب، واستقر الحكم فيها لعقبه قرابة قرنين من الزمان، علا فيها صرح الحضارة والعلم والفلسفة، وبرع أهلها في الفنون كافة، وعاشت فيها مختلف الأعراق والطوائف والمذاهب في أمن وسلام. وبذاك فقد أقامت الدولة الأموية في الأندلس الدين والدنيا معاً. فرحم الله صقر قريش رحمة واسعة.
المراجع:
1- حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، القاهرة، ط2، 1997.
2- راغب السرجاني، قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، جـ1، مؤسسة اقرأ، القاهرة، ط1، 2011.
3- علي محمد الصلابي، الدولة الأموية، دار ابن كثير، بيروت، ط1 2005.
4- محمد عبدالله عنان، دولة الإسلام في الأندلس من الفتح إلى بداية عهد الناصر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1997.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.