كانت زيارتي الأولى للمغرب محض صدفة إبان مشاركتي مع منتخب لبنان في إحدى مباريات كرة الطاولة حين كنت لاعبة، لم يخطر في بالي ولو لمرة كفتاة من المشرق العربي أن أُبحر في ثنايا المغرب حتى رماني القدر في طريقه، فأصابتني أسهمه الرقيقة ورحت أبحث في تفاصيله الدقيقة وكأنني وجدت نجمة ضائعة، بل هي المملكة الأكثر حضوراً ونحن التائهون عنها.
بكل بساطة وصلتني الدّعوة حزمت حقائبي وغادرت مع الفريق. بعد ست ساعات بالكمال والتمام وصلنا الدار البيضاء، أو كما يحب أن يطلق عليها المغاربة "كازا."
هي البلد الأكثر سحراً وجمالاً، جوهرة عربية بطابع غربي، خليط ثقافي مميز لشعب يجيد ثلاث لغات، بين بحر أقلق مضجعها عبر التاريخ وسلسلة جبال ثلج ترويها، وصحراء فتحت أبوابها نحو مجاهل إفريقيا.. وبين العرب والغرب نقطة هي نقطة ضائعة ستجدها هنا قابعة عند التراب المغربي.. أو كما أفضل أن أصفه قمر العرب الغائب، وهنا يكمن بيت القصيد لماذا هو غائب، لماذا يغيب عن شاشاتنا العربية لماذا لا نفقه قضاياه، وثقافته وتنوع أعراقه كأنه يغرد خارج سرب العرب؟
عليّ أن أعترف وبكل أمانة أن البلد الجدير بالبحث والحب والسياحة، مظلوم من ناحية الإعلام العربي لصالح دول المشرق، فرحلتي التي كانت مصادفة كشفت لي ولو جزءاً بسيطاً من جمال وبهاء آخر بلد على الخريطة العربية، لماذا نُسي المغرب؟!
يُشكل المغرب الحالة العربية الاستثنائية الأكثر إثارة وتشويقاً لما يحمل هذا البلد من تناقضات هي بمثابة تنوع أغنى وجوده وثقافته، رغم أن المغرب لا يخلو من فساد وفقر وسرقة، حاله حال أغلب الدول العربية، لكن بالرغم من هذا أجده فاتناً بأدقّ تفاصيله الصغيرة.
جمال التنوع العربي، الأوروبي، والأمازيغي نسج لوحة من التكامل الثقافي والعرقي المشبع بالحضارة، عبق الصحراء مع جبال الأطلس المكسوة بالثلوج، وهناك خلف الصخرة شاطىء ذهبي حفرته أمواج البحر خليجاً عتيقاً جامحاً.
فالبحر الذي كان يأتي حاملاً الغزاة ومطامع الغرب، بات وديعاً مروضاً، في أعماقه مرجان وثروة سمكية والكثير من الأمنيات.. التنوع والنسيج المتشابك للمغرب وصل حد مطبخه المعروف بخلط الحلو والمالح معاً بتميز وروعة في المذاق والطعم، فعلى سفرة الطعام نفسها يمكنك أن تتذوق الحلو والمالح معاً وممكن في نفس الطبق، وإن كانت لك زيارة قريبة لا تتردد في تذوق الكسكس والطاجن والمروزية.
ومن ملح الطعام وسكره إلى فن العمارة والألوان الترابية التي تغزو المشهد. يتأثر المغاربة بفن العمارة الأندلسي المستمد من ألوان الصحراء الناعمة الهادئة، وتتلون بعض المدن بالأبيض والأزرق المريح للنظر. كما لفن العمارة البرتغالي والإسباني والروماني حضور لافت، ويصدمك التصميم الداخلي الذي يجمع ألواناً جريئة كالأصفر والأزرق والأحمر، فسيفساء تغطي الجدران وسقوف خشبية عريقة.
على الطرقات وعلى مد البصر ترى خلف الجلاليب ولباس الحداثة تعايش الثقافات والأخوّة، إنه إسلام المغرب المنفتح والمتسامح، فللقفطان المغربي حكاية، تراه في كل مكان لباساً تراثياً فضفاضاً ومزركشاً، تتفنن المغربيات في هذا اللباس فيحكنه بطريقة فنية دامجة ألوانها المفضلة بنقوش مغربية متنوعة. وبالطبع لا ننسى حذاء "علاء الدين" الملون والمسمى "البلغة" هو نعل تقليدي مغاربي، يُصنع من الجلد ويرافق في غالب الأحيان باقي الملابس التقليدية المغربية..
يغيب المغرب عن شاشاتنا العربية أو يحضر كضيف متواضع، فعلى سبيل المثال يفهم المغاربة لهجاتنا قضايانا أزماتنا ومشاكلنا السياسية، حتى أنهم يتابعون أخبار الفن والدين وبرامج العلوم، في المقابل نجهل أبسط قضاياهم، نضيع أمام لهجتهم العربية الممزوجة بكلمات فرنسية، فمن غير العادل أن نحلم برحلة استجمام إلى أوروبا وأمامنا كنز يضاهي المشرق والمغرب جمالاً، ببساطة لأنه يحمل الاثنين معاً في قلب واحد، هو قلب المغرب الكبير.
القضية الفلسطينية حاضرة في المغرب، فالرأي العام المغربي في غالبيته مؤيد لحق الفلسطينيين بالعودة، ورافض لكل عنجهيات الاحتلال، ولكن من منا على دراية بقضية الصحراء المغربية؟
من منا نحن كعرب شرقيين يعرف عن جبهة البوليساريو وحلمها بالاستقلال، من منا يعرف المشاكل التي يواجهها المغرب؟
أكاد أجزم أن غالبية الوطن العربي لم يسمع عنها.
فحتى مادة القضايا العربية التي درستها في الجامعة لم أقرأ فيها عن قضية واحدة تخص المغرب لا من قريب ولا من بعيد، وكأنه بلد من عالم آخر. مسلسل الترحاب والضيافة لا ينتهي منذ أن تطأ قدمك التراب المغربي فخلف الوجوه السمراء طيبة، وخلف الابتسامات حب لكل ضيف، الكل مستعد لاستضافتك، الجميع مستعد للمساعدة.. هي الشهامة العربية والكرم العربي.. تكفي اللغة الفصحى لكي تتفاهم معهم.
رغم أن بلاد الشام غارقة بين فساد ودمار وانهيار، ترى في المغرب بصيص أمل للتقدم ولو بعجلة بطيئة فهو يسير مثقلاً بالأزمات والمحسوبيات، نحو الحداثة التي ربما تحتاج إلى سنوات من العمل الدؤوب ومحاربة الفساد ليسطع نجم المغرب ليس عربياً فقط بل عالمياً أيضاً، لاسيما في مجال الصناعة والزراعة.
فالمغرب الذي يعمل بصمت وسط ضجيج العرب، سطر إنجازات مهمة كميناء طنجة، البوابة البحرية للمغرب الذي يعد اليوم من الأكبر على حوض المتوسط ، كما أنه نقطة التقاء البحر بالمحيط الأطلسي عند مدخل مضيق جبل طارق. من البحر إلى البر يظهر "البراق"، هو قطار فائق السرعة يربط مدينة طنجة في الشمال بمدينة الدار البيضاء مروراً بمدينة القنيطرة والعاصمة الرباط. دُشن قطار البراق سنة 2018، وهو أول قطار فائق السرعة في القارة الإفريقية.
لكن البلد الغني بالفوسفات والمصدر الثالث عالمياً له والذي يستحوذ على %75 من الاحتياطي العالمي لم يكتف بهذا القدر فصنع أكبر إنجازاته وأكثرها إثارةً للدهشة؛ هي محطة نور للطاقة الشمسية ، "نور" اسم على مسمّى. تنشر نور مراياها على آلاف الهكتارات، ما يعادل ثلاثة آلاف وخمسمائة ملعب كرة قدم، مما يجعل منها واحدة من أكبر محطات توليد الطاقة الشمسية في العالم، لأن الشمس مصدر لا ينضب، تستغل المحطة الشمس وتحول نورها إلى كهرباء، هذا ما يتيح للمغرب الخروج من اعتمادها على النفط، وبحلول العام 2030 سيكون أكثر من نصف الطاقة المنتجة في البلاد طاقة خضراء!
ربما علينا أن ننصف المغرب إعلامياً وسياحياً، فغيابه عن شاشاتنا بات مريباً ويطرح العديد من علامات الاستفهام؟، فلا يمكن أن تزور هذا البلد دون أن تحبه، حتى إن مظاهر العوز والشحادة والسرقة تكاد تكون شبه مختفية، وليست طاغية على المشهد كبعض الدول العربية التي تزورها وتتعرض إما للنصب أو السّرقة أو حتى التحرش بمجرد أن يعرفوك سائحاً. التاجر المغربي يمكن أن يخفض أسعاره على عكس المتوقع لمجرد أنك ضيف قادم من بلاد الشام أو من بلاد تواجه مشاكل وأزمات وهذا ما حصل معي!!
تلاحق الشائعات المغرب من كل حدب وصوب كمثل أنهم مجتمع يتفنن في صنع السحر والشعوذة والأعمال المدفونة، هو الأمر الذي لم ألاحظه طوال مدة إقامتي في ثلاث مدن، بالطبع السحر والخزعبلات موجودة في كل البلاد العربية، لكن الدراما العربية كانت مجحفة بحق المغرب والتي عادة ما تظهر الساحرة أو المشعوذ بأنه مغربي. فلا المغاربة هم سحرة ولا المغربية بائعة هوى تنتظر الثري العربي، على العكس هن نساء عربيات حالهن كحالنا، حتى إن مظاهر الحجاب تطغى على المشهد.
يبقى المغرب مفاجأة وسراً غامضاً.. يتوارى أمام أعيننا كما توارى عن العديد من الرحالة والباحثين، يختفي وراء الصور، صور المشاهد الخلابة، صور الأزقة والمدن القديمة، يتبدى المغرب كمملكة تقاليد، لكنه بلد توغل بكل ثبات في الحداثة، يراه البعض وأنظارهم سارحة في الأفق البعيد كبلد بحارة تعصف به الرياح، بينما ظن آخرون أنهم عرفوا حقيقة المغرب في جبال الأطلس ووديانها، المغرب بالنسبة لعلماء الجغرافيا القدماء هو البلد الذي تغرب فيه الشمس في أقاصي العالم العربي، تضعه الخرائط على مشارف أوروبا، وهو إلى ذلك باب مفتوح على أغوار القارة الإفريقية، ماذا لو كان ذلك البلد ملتقى هذه الدروب جميعاً، أين يخفق قلب المغرب الخفي؟
يخفق قلب المغرب هنا بيننا، في أحضان صحراء كثبانها عالية وأمام بحر حملنا نحو عالم آخر، قسى علينا فواجهنا المصير ذاته. المغرب هنا حاضر غائب بيننا مصيراً وتاريخاً ولغة وديناً وسياسة. ربما علينا أن نرفع غشاوة أعيننا قليلاً ونراه بقلوبنا كما يرانا هو واحة من الجمال. نعيد ترتيبه بين أخوتنا بعيداً عن فرنسا.. نمد له أوصالنا وأيدينا فيحتضننا بقوة. على إعلامنا أن يفتح يوماً نافذةً أكبر على مملكة تسمّى المغرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.