قبل أسبوعين، بدا أن كل الأحاديث في لبنان تدور حول الوقاية من الفيروس. إذ أصبحت شوارع بيروت الصاخبة هادئة؛ وكان الجميع يرتدون كمامات وقفازات ويحدقون بريبة في وجه أي شخص يسعل في الأماكن العامة، فيما ملأت رائحة معقمات الأيدي المصاعد.
بعد انتهائي من شراء مواد البقالة، عقّمت كل شيء اشتريته ووضعت الأكياس البلاستيكية في الشرفة لمدة أسبوع قبل أن أعيد استخدامها. والأسبوع الماضي، عدت من المتجر وكدت أنسى غسل يداي بعدما أخرجت فاتورة المشتروات لأُطلع زوجي على أسعارها الباهظة. وشطبنا أشياء لم نعد نستطيع تحمل تكلفة شرائها بانتظام، مثل الجبن.
لكننا نعتبر أنفسنا من الفئة المحظوظة. ففي سبتمبر/أيلول، أصبح حوالي ثلث سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر. واليوم، ارتفع العدد ليصل إلى ما يقرب من نصف السكان. وقد فُرض الإغلاق العام في لبنان لوقف انتشار فيروس كورونا منذ منتصف مارس/آذار، عندما أغلقت الحكومة الحدود والأعمال "غير الضرورية".
وأُشيد بالحكومة اللبنانية لاستجابتها السريعة للوباء، لكن هذه الأزمة كانت أيضاً بمثابة هدية للساسة.
وبدأ اللبنانيون في الاحتجاج على نخبهم السياسية منذ أكتوبر/تشرين الأول ورفضوا مغادرة أماكن الاحتجاج. وتسبب في اندلاع هذه الاحتجاجات الإعلان عن ضريبة مقترحة على مكالمات واتسآب في 17 أكتوبر/تشرين الأول- أحد إجراءات التقشف العديدة المقترحة التي تهدف إلى تخفيف دين لبنان البالغ 86 مليار دولار- واستهدفت الاحتجاجات الحكومة بسبب فسادها الذي دام عقوداً وتقاسم السلطة الطائفي وتعطيل نظام الخدمات المصرفية.
إذ أقرضت المصارف اللبنانية الحكومة أموال المودعين ولم تعد تملك سيولة دولارية تعادل المبالغ التي أودعها الناس في حساباتهم المصرفية. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني، فرضت المصارف قيوداً صارمة على عمليات السحب، حيث سمح بعضها بسحب مبلغ 100 دولار فقط في الشهر. وأدت هذه القيود على السحب وظيفة الضوابط غير الرسمية على رأس المال.
وبدأت الليرة اللبنانية، التي استقر سعر صرفها لفترة طويلة عند 1507 ليرة مقابل دولار واحد بفضل "الهندسة المالية" التي نفذها رياض سلامة، الذي شغل منصب حاكم المصرف المركزي لسنوات طويلة، تفقد قيمتها.
واستمر المتظاهرون، رغم تناقص أعدادهم، في الاحتجاج في مختلف أنحاء البلاد، في مسيرات أسبوعية، وفي تجمعات خارج فروع المصارف، وخارج منازل الساسة والوزارات الحكومية.
وعندما فرضت الحكومة إغلاق البلاد في 23 مارس/آذار، سجلت البلاد 60 حالة إصابة بفيروس كورونا. وتوقع خبراء تسجيل ما لا يقل عن 400 حالة وفاة بحلول نهاية يونيو/حزيران في ظل اتباع إجراءات تباعد جسدي مشددة. وغادر المتظاهرون الشوارع وعادوا إلى منازلهم. واغتنمت الحكومة الفرصة لتفكيك خيام المتظاهرين.
وفضلت المصارف فتح أبوابها بمواعيد لأصحاب الأعمال ورفضت استقبال المودعين الصغار الذين لم يتمكنوا حتى من سحب مخصصاتهم الضئيلة من الدولار. وساهم غياب الدولار من السوق، إلى جانب إصدار المصرف المركزي لسلسلة من التعميمات، كل منها يقر أسعار صرف مختلفة، في الاضطراب الهائل لليرة والطلب المحموم على الدولار.
وبعد الإغلاق، دخلت الليرة مرحلة السقوط الحر. وفقد الكثير دخلهم بسبب الإغلاق، والبعض الآخر بسبب انخفاض قيمة العملة. والأسعار ترتفع كل يوم تقريباً. ووعدت الحكومة بتقديم مساعدات بقيمة 400 ألف ليرة للأسر المحتاجة، ولكن دارت مشاحنات حول توزيع المساعدات دامت لفترة طويلة حتى أنه بحلول الوقت الذي توصلوا فيه إلى اتفاق، انخفضت قيمتها إلى أقل من 100 دولار. ولم توزع المساعدات بعد.
وفي 25 أبريل/نيسان، بلغت الليرة أدنى مستوى لها على الإطلاق: حوالي 4000 إلى 4200 ليرة للدولار، وهو انخفاض في قيمتها بنسبة تزيد عن 60%. وانفجر الغضب المكتوم مرة أخرى في الشوارع، وحدثت أكبر عمليات التعبئة في طرابلس، أفقر مدن لبنان.
وانتهك المتظاهرون في العديد من المدن، مثل طرابلس وبيروت، حظر التجول الليلي، وقطعوا الطرق وأشعلوا النيران في المصارف لسماحها للمودعين الكبار بتهريب المليارات من البلاد بينما لم يعد بإمكان الناس الفقيرة تحمل تكلفة شراء العدس.
وتحمل الموجة الجديدة من الاحتجاجات درجة من اليأس لم تبلغها من قبل. لكن الجيش قابلها بعنف مروع، مستخدماً الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والرصاص الحي لقمع المتظاهرين.
في ليلة الـ 27 من أبريل/نيسان، قتل الجيش فواز السمان البالغ من العمر 26 عاماً، وتسبب في جرح العشرات خلال الاحتجاجات في طرابلس. كان السمان، وهو ميكانيكي دراجات بخارية، يكافح من أجل الإنفاق على زوجته وابنته بعد أن تأثر دخله بشدة بسبب الأزمة.
حاول الجيش في اليوم التالي نزع فتيل الغضب الشعبي عن طريق نشر فيديو يُظهر الجنود يوزعون المساعدات على الناس، تخللته لقطات المحتجين الغاضبين، وانتهى بعبارة "هيك رد الجميل؟" أثار الفيديو موجة غضب شديدة، وحُذف لاحقاً بعد ساعات.
تحدث المحتجون الذين أُلقي القبض عليهم عن أنهم تعرضوا للتعذيب أثناء احتجازهم، وضُربوا بشراسة وصُعقوا بالكهرباء على يد وحدات الاستخبارات العسكرية. وفي مقابل هذه الفظائع واليأس اليومي وأنهم ما عادوا قادرين على تحمل أبسط الأشياء، تلاشت الفكرة المجردة المتعلقة بتهديد الفيروس، بالرغم من وجود 741 إصابة و 25 حالة وفاة.
فمن أجل أن تقلق من أن يصيبك مرض ما، يجب أن يكون لديك شعور بالمستقبل الذي قد يُسرق منك. والمستقبل في لبنان يبدو قاتماً للغاية.
بعد معارك داخلية معتادة، أعلنت الحكومة في الأسبوع الماضي "خطة الإنقاذ" الاقتصادي الخاصة بها، التي تتألف من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض. وإذا وافق الصندوق على الطلب، سوف يتوجب علينا التعامل مع تدابير التقشف التي لن تفعل شيئاً إلا زيادة الفقر. بل إن ذلك لن يحدث إلا إذا كانت الدولة اللبنانية المعروفة بفسادها قادرة على تلبية الحد الأدنى من الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي.
يُتوقع تخفيف حالة الإغلاق في 24 مايو/أيار، مع إعادة فتح المطاعم والحانات تدريجياً. فكم عدد اللبنانيين القادرين على تحمل كلفة الذهاب إليها؟
فقدت حماتي حنان بزي، التي تقاعدت مؤخراً من وظيفتها المحاسبية المستمرة منذ عقود، أغلب راتبها التقاعدي بسبب الأزمة المالية. وقالت: "على الأقل، عوّدنا فيروس كورونا على طبخ أي شيء يصادف وجوده لديك، وكيفية البقاء في المنزل وادخار مال النزهات. وحتى بعد أن يختفي الفيروس، سوف نبقى مرغمين على العيش بالحد الأدنى بالصورة التي علمنا الفيروس إياها".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.