“الصلاة في بيوتكم”.. عن آلام رمضان في زمن الكورونا

عدد القراءات
643
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/07 الساعة 11:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/07 الساعة 11:54 بتوقيت غرينتش
"الصلاة في بيوتكم".. عن آلام رمضان في زمن الكورونا

في كل مساء من مساءات الحجر الصحي، أنغمس في الفراش، أتحسس جسدي الهزيل الذي لا يزال يحلم بالفرح والسفر والمغامرات، أُنزل الستائر الغليظة، وفي ظلام دامس أكتب على حاسوبي اللمسي بأصابع قلقة، أتبادل مع أصدقائي في الشبكات الاجتماعية النكت والمعلومات والمقالات وصور الكاريكاتير والورود والقلوب، والقبلات، والكل يستغيث بالآخر دون نداء إغاثة، فلا ضوء يدفئ القلب لولا ضوء الحاسوب، ولا بحر يغسل صوت الفجيعة.

في الواقع، عشت متنقلة بين المدن، كثيرة الحركة والنشاط لكن العزلة كانت حبلاً سرياً قوياً يشد جسدي ويقويه ويحميه، إثر كل صدمة أو فاجعة وبعد كل تعب أو شعور بالضياع. وقد كانت العزلة ملاذي ومسرحاً لصمتي وتفكيري وخيالي وتحرري من لغط العالم الخارجي وضوضائه المزعجة، وأصواته المفزعة.

صورة الطفلة في حجر علبة كرتونية، أصوات النحيب القريبة البعيدة وشهقة الأم وهي تحضن أطفالها الأربعة، سهرة الذكر وقراءة القرآن حول جثة أبي، نحيب جدتي وتشييع الجموع له. صور لم أرها ولا أدري كيف أمكن لي أن أراها الآن على امتداد الطريق ومع كل مشهد للبحر وللجبل.

بسرعة مجنونة كنت أقود سيارتي كي أتمكن من الوصول إلى مدينة سكيكدة التي تبعد عن تيزي وزو بحوالي 300 كيلو قبل توقيت الحظر الذي يبدأ من الساعة الثالثة مساء لينتهي على الساعة السابعة صباحاً.

مدت يداها إلى العلبة الكرتونية تحت السرير، فابتسمت والدمعة تنحدر على خذها المتوهج.

أقضي ليالي الحجر أتتبع آخر الأخبار عن فيروس كورونا على شاشة المحمول، وقبل أن أنام كنت تفقدت هاتفياً أمي وأختي وأخي المقيم بفرنسا. في نحو الساعة الثالثة صباحاً، استيقظت مفزوعة على أصوات مخيفة، نباح كلاب وعواء قطط وأصوات أخرى غريبة لم أتمكن من فرزها وتحديدها. هلعٌ دقّ قلبي، ذكَّرني بأخي الوسيم الرياضي حسين الذي فارقنا في ريعان شبابه سنة 2010 بعد صراع مرير مع مرض السرطان اللعين. ذكَّرني أيضاً بأخي الرائع الاستثنائي أحمد، الذي فارقنا فجأة بسكتة قلبية، دون إشعار ودون وداع.

آه لهذه الحياة الفانية، كأني بها زجاجة عطر نفيس لا يلبث أن يتبخر! كأني بها رغوة صابون تذهب إلى جوف الأرض من ثقب حوض الحمام! كأني بها حبيبات منزلقة، فقاعات هواء متطايرة بسرعة مذهلة،  قطرات مطر منجرف، ومضة للحياة وأخرى للموت! ما زالت أصواتهما تسكنني، وما زال أسى الفقد يقتلني، ولن ينتهي إلى أن ألتقيهما في الحياة الأخرى.

سؤال الحياة والموت يؤلم رأسي: لماذا خُلقنا طالما سنموت؟ لم أشأ أن ألج مطارحات الفلسفة فيما يخصّ هذا الموضوع ولا حتى مقولات الدين، كنت فقط أنصت إلى النزيف الداخلي طيلة أيام الحجر وأتحسس عدمية الوجود.

ربي.. ليتنا لم نأتِ إلى هذه الحياة طالما ستنتهي.

وها هو يأتي شهر رمضان هذه السنة ليجدنا في حالة من القلق والخوف والترقب، مقيدين داخل فضاء البيت، لا نكاد نبرحه إلا للضرورة القصوى، خاضعين لما فرضه وباء كورونا من حجر صحي عالمي، وملزمين بما ترتب عنه من قواعد وشروط لم نتعود عليها لاسيما في الشهر الفضيل. فلا مجال لتقاسم مائدة رمضان مع أفراد العائلة الكبيرة ولا أمل في لقاء الأصدقاء والسهر معهم، حيث إن الخروج ممنوع والمدينة تكاد تكون مغلقة بالكامل.

 الصلاة في بيوتكم عبارة لا تخلو من حشرجة وحزن وألم في صوت المؤذن، أضيفت للأذان منذ تفشي الجائحة في الأقطار العربية. صلاة مشتركة جميلة كأني أكتشفها لأول مرة. إفطار هادئ مع الشريك وكلمات قليلة دافئة تخترق سطوة المكان. 

يستعيد كل منا، بعد ذلك، مسافته الخاصة وحيزه الأليف، فمهما اشتركنا في أشياء كثيرة يبقى لكل عالمه الداخلي الخاص، يجلس طويلاً في الشرفة، يدخن سيجارته متطلعاً إلى السماء مرة ومنكباً على شاشة هاتفه حيناً آخر.

أرتشف قهوتي في ركني المفضل بالصالون، وعبر فيسبوك وواتساب وفايبر.. يحضر الأحبة والأصدقاء من أنحاء قريبة وبعيدة وتتقلص العزلة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مسعودة لعريط
كاتبة وأكاديمية جزائرية
كاتبة وأكاديمية جزائرية
تحميل المزيد