كان الشعب العراقي يعاني لأكثر من ثلاثة عقود من سطوة نظام منفرد، صاحب قرارات مركزية لا جدال فيها ولا نقاش. وعانى الشعب الأمرّين جراء القمع والتعذيب الداخلي وتصفية الخصوم والإعدامات على الظن. كان هذا الشعب المسكين يتدنَّى خطُّه البياني من ناحية الأعمار والتعليم وحتى الثقافة، بعدما انتهى المطاف بالمثقفين والعقول النيرة في المعتقل والمهجر.
ثم إقحام العراق في حرب مع إيران أقل ما يقال عنها إنها حرب غبية لا طائل منها ولا هدف واضحاً، الحرب التي أدخلت العراق نفقاً مظلماً مازال يدفع ثمنه من دم الشعب، ثم احتلال الجارة والشقيقة دولة الكويت، ومن ثم الحصار الذي كان نقطة تحول كبيرة في المجتمع العراقي.. كل ذلك عاد بالعراق سنواتٍ إلى الوراء، وغيَّبه في ظلمات من الجهل والتخلف، حتى رأى بعض من الشعب في دخول الجيش الأمريكي بارقة أمل، حتى وإن كان احتلالاً، علّه يكون تغييراً ولو طفيفاً بعدما صار الفرد لا يجد قوت يومه.
وبعد تشكيل حكومة من المعارضين السابقين وعرّابها پول بريمر، الحاكم المدني للعراق، كان لدى بعض العراقيين أمل في القادم. لم يكن الشعب يدرك أنه على أبواب حقبة مظلمة أكثر لعنة من سابقاتها، فقد كان تكالُب السياسيين الجدد على السلطة وتهافتهم على سرقة ثروات العراق هو الشغل الشاغل.
وصفهم پول بريمر في مذكراته بأنهم لم يكن يهمهم سوى كم يتقاضون، ولم يكن لدى أحدهم أي خطة عمل أو فكرة للنهوض بالبلد. فالشغل الشاغل كان نهب الثروات، فالذين أصبحوا رجال الدولة ويمثلون العراق ليسوا سوى مجموعة من المعارضين الذين ليس لديهم أي فكر أو نية لقيادة الدولة، لذا تراهم يتصرفون بعقلية المعارض الذي يهدف إلى اغتنام أموال أكثر من الدولة بدلاً من تقديم منجز ملموس.
ومنذ 2003 وحتى الآن، أُهدرت الملايين في مشاريع وهمية، وصارت سرقاتُ المال العام لا حصر لها، حتى أصبح العراق مديوناً وشبه مفلس، خاصة بعد أزمة كورونا وهبوط أسعار النفط.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العالَم بدأ يغير سلوكه الاستهلاكي للطاقة، وتدريجياً تحاول الكثير من دول العالم الاستغناء عن النفط الخام ومشتقاته، والبحث عن طاقات بديلة تكون أكثر اقتصادية وصديقة للبيئة.
والكثير من دول منظمة الأوبك والدول النفطية بدأت فعلاً العمل على إيجاد بدائل لتأمين الدخل القومي، على رأسها قطر والكويت. لكن يبدو أنه لا توجد خطة واضحة أو أي شكل من أشكال النظام لإيجاد بدائل للدخل القومي في العراق، الذي في ظِل نظام متهالك وفاسد مالياً وإدارياً وعلى شفا الإفلاس قد لا يستطيع سداد نفقاته والتزاماته المالية. وفي الشهور القادمة قد لا يستطيع دفع رواتب ومعاشات الموظفين حتى، وقد بدأت أولى بوادر هذه المشكلة حينما رفضت حكومة المركز دفع رواتب حكومة إقليم كردستان، بذريعة عدم التزام الأخيرة بالتزاماتها المالية تجاه المركز.
كل هذا والحراك الداخلي في تصاعُد، ويزداد التذمر وسط الجمهور العراقي، ومن ناحية أخرى بدا التراخي الأمني واضحاً، خاصة بعد الهجمات الأخيرة لداعش في كركوك وبعض المناطق الغربية لمحافظة تكريت.
من الواضح أنه لا بديل للعراق سوى بيع النفط، حيث إن الرؤية الاقتصادية في البلاد معدومة، والحكومة تتعامل كأنها تدير محل بقالة، حيث مبدأ "بِع النفط وادفع الرواتب" هو القائم. وبما أن أسعار النفط تنهار، وأصبح السياسيون لا يجدون فيه الكفاية للتغطية على المصاريف والنفقات، فما البديل؟
كما هو معروف فإن العراق لديه مصادر أخرى تُدرُّ عليه مداخيل مالية قد تغنيه عن النفط، إذا ما استُخدمت بصورة صحيحة. فمثلاً تدرُّ العتبات المقدسة المليارات سنوياً، لكن الأهم من ذاك هو أن العراق وبحكم موقعه لديه منافذه الحدودية، التي تشكل مصدر دخل سنوي ضخماً إذا ما استخدمت بشكل فعال.
لذا فمن المحتمل في المرحلة القادمة أن تتوجه جميع الأنظار إلى محاولة السيطرة على المنافذ الحدودية، والاستفادة من العوائد المادية لها. ومن المتوقع أيضاً أن تزداد وتيرة الخلاف بين أربيل وبغداد للسبب نفسه، إذ تُشرف كردستان العراق على العديد من المعابر الحدودية الدولية مع كل من إيران وتركيا، لكن أهمها معبر حاج عمران، أحد ثلاثة معابر مع إيران، ويمر من خلاله ما قيمته 800 مليون دولار من البضائع في الاتجاهين. وهناك معبران آخران مع إيران، هما معبر باشماق ومعبر برويزخان.
وفي ظل الضائقة المالية التي تمر بها البلاد، فإن الصراع الداخلي القادم في العراق قد يكون على فرض السيطرة على تلك المعابر، فهي لا تقل أهمية عن نفط العراق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.