"بزيادتها، أي الضرائب، تضعف عزائم الناس عن العمل، لأن ناتج عملهم تأخذه الدولة، وحينئذ تنقص الضرائب بقلة الإنتاج وتدهوره، ويزداد الأمر سوءاً بتدهور الإنتاج باستمرار تناقصه مع زيادة الضرائب، فينتج عن ذلك خراب العمران"، كانت هذه هي النتيجة التي توصل إليها ابن خلدون، رائد علم الاجتماع العربي الشهير، ورصدها في مقدمته الشهيرة التي ألفها في عام 1377 ميلادية.
وكما توصل ابن خلدون لهذه النتيجة، فمن السهل على أي متابع للشأن المصري أن يستخلص نتيجة مشابهة تقول إن المواطن في مصر بات يعمل لسداد مستحقات الضرائب وأعباء الدين العام سواء الخارجي أو الداخلي، وأن الحكومة باتت تتفنن في أساليب فرض الضرائب والرسوم الحكومية واختيار مسمياتها بعناية، فبدلاً من أن تسميها ضرائب تطلق عليها رسوم تنمية وما شابه.
أحدث مثال على ذلك تلك الرسوم والضرائب التي أقرها البرلمان المصري يوم الإثنين 5 مايو/أيار 2020، وتم بموجبها فرض رسوم على استهلاك الوقود بواقع 30 قرشاً على كل لتر بنزين و25 قرشاً على استهلاك كل لتر سولار، وهذه ضريبة تفرض لأول مرة، كما تم فرض رسوم إضافية على الحديد المستورد، وعلى فواتير الإنترنت للشركات والمنشآت التجارية بنسبة 2.5%، وتم فرض رسم جديد على أجهزة التليفون المحمول وأجزائه وجميع الإكسسوارات الخاصة به بواقع 5% من قيمتها مُضافاً إليها الضريبة على القيمة المضافة وغيرها من الضرائب والرسوم الأخرى. وأقر البرلمان كذلك زيادة رسم التنمية المفروض على استخراج كل صحيفة من صور المحررات الرسمية من مصلحة الشهر العقارى، وذلك من جنيه واحد إلى 5 جنيهات.
ولم تتوقف الحكومة عند هذا الحد، بل إنها أعدت مشروع قانون يتم بموجبه اقتطاع 1% من رواتب العاملين بالدولة للمساعدة في مواجهة وباء كورونا، وبما يعادل نحو 3.35 مليار جنيه سنوياً من إجمالي رواتب موظفي الجهاز الإداري البالغ قيمتها 335 مليار جنيه.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فهناك ضرائب ورسوم أخرى في الطريق وبدءاً من شهر يوليو/تموز المقبل، فحسب البيان التحليلي لمشروع موازنة السنة المالية 2020-2021 فإن وزارة المالية تستهدف زيادة الإيرادات الضريبية بنحو 12.6٪ لتصل إلى 964.777 مليار جنيه (61.45 مليار دولار) مقابل 856.616 مليار جنيه في مشروع الموازنة الحالية والتي تنتهي في 30 يونيو/حزيران المقبل. وهو ما يعني أن الحكومة تخطط لزيادة إيرادات الضرائب بنحو 108 مليارات جنيه، وهذه الزيادة سيتم تمويلها من جيب المواطن والموظف.
وهناك بشرى غير سارة للمدخنين في مصر حيث تخطط الحكومة لزيادة الضرائب على أنواع السجائر المختلفة، حيث تستهدف الحكومة زيادة الإيرادات من ضريبة السجائر والتبغ (الدخان) نحو 13.3٪ في مشروع موازنة 2020-2021 لتصل إلى 74.6 مليار جنيه.
دافع الضرائب هو الممول الأول للخزانة
شئنا أم أبينا، فنحن أمام حقيقة تقول إن المواطن البسيط وموظف الحكومة محدود الدخل ودافع الضرائب هو الممول الأول للخزانة العامة في مصر، وهو الممول الأول كذلك للعاصمة الإدارية الجديدة وقطارها المكهرب وفنادقها الشامخة وبرجها الأعلى في أفريقيا وسورها العالي، وإنه لولا جيب المواطن وضرائبه ورسومه ما وجدت الحكومة عشرات المليارات من الجنيهات لضخها في شرايين هذه العاصمة التي تستنزف موارد الدولة المحدودة.
وعلى مدى السنوات السبع الماضية، تحولت مصر إلى "دولة جباية"، حيث لا تسابق حكومتها حكومة أخرى في العالم في انتزاع كل ما تبقى في جيب المواطن "المخروم" أصلاً، واغتراف ما تبقى من دخول محدودة لا تكفي حتى لسداد الالتزامات المعيشية اليومية لملايين المصريين، حيث يلجأ المواطن إلى الاقتراض والجمعيات وربما إلى الجمعيات الخيرية لاستكمال شهره.
ومع تغول عقلية دولة الجباية، توقف عقل صانع القرار في مصر عن الإبداع في ملف إدارة إيرادات الدولة المتنوعة، بل وبات صاحب القرار يختار أسهل حلين لا يحتاجان أي مجهود أو إبداع أو خبرة في إدارة شؤون الدول، الأول يسابق الزمن في فرض مزيد من الرسوم والضرائب والجمارك والتمغات، والثاني يبحث في كل صوب وحدب عن قروض خارجية وبأي تكلفة ولمدد تتجاوز 40 سنة، والنتيجة إغراق الاقتصاد والموازنة العامة في أزمات متعاقبة، وإغراق الأجيال المقبلة في جبال من الديون التي باتت تفوق قدرة الاقتصاد وموارده من النقد الأجنبي.
تعالوا نتخيل حال الخزانة المصرية بلا ضرائب أو قروض، وتعالوا نرسم صورة لبند الإيرادات العامة للدولة بدون لجوء الحكومة إلى التوسع في سياسة فرض كل أنواع الرسوم التي يمكن أن تتخيلها على المواطن الذي تآكلت عملته ومدخراته وقدرته الشرائية بسبب تعويم العملة، لنتخيل كيف باتت هذه الخزانة خاوية بفعل سياسات حكومية شجعت على الاغتراف من المؤسسات الدولية واقتراض أكثر من 65 مليار دولار في فترة زمنية لا تتجاوز الست سنوات، إضافة إلى مبلغ مماثل من المساعدات والمنح الخارجية خاصة التي تلقتها البلاد بعد منتصف عام 2013 من دول الخليج الثلاث السعودية والإمارات والكويت والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وغيرها من الجهات المانحة.
العودة إلى صندوق النقد
خلال الأيام الماضية حدث تطوران يلخصان كيف يدير صانع القرار خريطة موارد الدولة، وكيف يتعامل مع الغالبية العظمى من المواطنين الذين سقط الملايين منهم من الطبقة الوسطى منحدراً نحو الطبقة الفقيرة وربما نحو طبقة الفقر المدقع التي تجد صعوبة في تدبير وجبة غذاء واحدة في اليوم. وكيف أنه اعتبر أن ملف زيادة الإنتاج وإعادة فتح آلاف المصانع المغلقة مسألة هامشية مقابل الاهتمام بمسألة أهم وهي البحث عن أسماء لرسوم وضرائب جديدة لفرضها على المواطن واغتراف ما تبقى في جيبه.
التطور الأول هو إعلان الحكومة عن التفاوض مجدداً مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد تتراوح قيمته ما بين 3 و4 مليارات دولار، والثاني إقرار البرلمان مشروع الموازنة الجديدة لعام 2020-2021 الذي سيتم بموجبه زيادة الضرائب والرسوم الجديدة وفواتير الكهرباء والمياه وخدمات النفع العام، وتستهدف الحكومة من خلال هذه الخطوات جمع مليارات الجنيهات لصالح الخزينة العامة.
على مستوى التطور الأول فقد شهد الدين الخارجي لمصر قفزة غير مسبوقة، وحسب الأرقام فإن هذا الدين زاد بنسبة تزيد عن 140% منذ منتصف عام 2014 ليصل إلى 109.36 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول 2019، مقابل 45 مليار دولار، ومنذ سبتمبر/أيلول الماضي لم يعلن البنك المركزي عن أحدث رقم يتعلق بالدين الخارجي. ومقابل هذا الدين تلتزم مصر بسداد نحو 18.6 مليار دولار خلال العام الجاري، وهو مجموع الأقساط والفوائد التي تتحملها الدولة.
ومع إصابة فيروس كورونا قطاعات حيوية تمثل المورد الرئيسي للنقد الأجنبي للبلاد، على رأسها السياحة، وتحويلات المغتربين في الخارج والصادرات وقناة السويس والاستثمارات الأجنبية والأموال الساخنة، يصبح احتمال توسع الحكومة في الاقتراض الخارجي قوياً.
وما يثير الانتباه في هذا الشأن تأكيد رئيس مجلس النواب، علي عبدالعال، قبل أيام، أن "مصر لديها الحق في مناقشة المؤسسات الدولية لوقف فوائد الديون الخارجية، أو تعليق سدادها على الأقل في ظل أزمة كورونا"، بل وتأكيد وزير المالية محمد معيط يوم الثلاثاء 5 مايو/أيار 2020 تقدم الحكومة بطلب لصندوق النقد والبنك الدوليين لإسقاط بعض الديون المستحقة.
أما التطور الثاني فهو توسع الحكومة المحموم في فرض الضرائب وفرض مزيد من الرسوم، وزيادة الضرائب القائمة، لدرجة أن هذا الأمر بات أسلوب حياة عند صانع القرار، فما تمر شهور حتى يواجه المواطن زيادات عدة في الرسوم الحكومية، والنتيجة أن جيب المواطن بات يوفر أكثر من 80% من إيرادات الدولة، واللافت هنا أنه أمام كل هذه القروض والضرائب الضخمة تتراجع الخدمات المقدمة للمواطن خاصة الصحية والتعليمية، ومع زيادة الدين العام تتوسع الحكومة في فرض مزيد من الضرائب والرسوم .
هل فات الأوان؟
عندما تواجه دولة ما أزمة اقتصادية فإن أول ما تفعله هو وقف تحصيل الضرائب أو خفضها لتنشيط دورة الاقتصاد وزيادة القدرة الشرائية للمواطن، وبالتالي تحريك الأسواق وزيادة الطلب على انتاج المصانع والمنشآت الإنتاجية، وعندما تواجه دولة أزمة اقتصادية أو مالية فإنها تعيد النظر في أولويات الانفاق.
ولا توجد أزمة أكبر من وباء كورونا الذي ألحق خسائر فادحة بالاقتصاد المصري، ولذا فإن المطلوب حسن إدارة موارد الدولة وإعادة توجيهها بما يخدم المواطن، وهذا يتطلب التوقف عن إقامة المشروعات التي لا تهم المواطن والاقتصاد ولا تفيد الخدمات الضرورية بشكل مباشر مثل التعليم والصحة، وكذا تلك المشروعات التي لا تدر قيمة مضافة للدولة، ومن بين تلك المشروعات العاصمة الإدارية الجديدة التي تستنزف 45 مليار دولار في المرحلة الأولى وباتت تمثل عبئاً شديداً على الاقتصاد مع ضخامة تكلفتها.
كما يجب إعادة النظر في القروض الدولية التي توجه حصيلتها لتمويل المشروعات المقامة في العاصمة الإدارية خاصة الترفيهية منها، ومن هذه القروض مثلاً 3 مليارات دولار قرضاً من الصين لتمويل إقامة ناطحات سحاب وأطول برج في أفريقيا، وكذا قرض لمشروع القطار الكهربائي أو القطار المكهرب (السلام ـ العاصمة الإدارية ـ العاشر) والبالغ تكلفة تنفيذه بدون أعمال الصيانة 1.2 مليار دولار، وقرض ثالث لتمويل مشروع النهر الأخضر الذي يشق العاصمة الإدارية الجديدة، وتبلغ تكلفة المرحلة الأولى منه 9 مليارات جنيه. ولا أعرف ما الذي سيضيفه هذا النهر الاصطناعي لمصر اللهم إلا إقامة فيلات وقصور للأثرياء على جانبيه.
كفى تضييعاً للفرص والوقت والنفقات المحدودة، ويكفي ما استنزفته تفريعة قناة السويس التي كلفت الاقتصاد 8 مليارات دولار وبسببها تم تعويم الجنيه المصري، كما يجب تأجيل مشروع المفاعل النووي البالغ تكلفته الاستثمارية 45.5 مليار دولار، منها 25 مليار دولار قرضاً من روسيا التي تنفذ المشروع، فهذه الإجراءات ستخفف الضغط الهائل على موارد مصر بالعملة الأجنبية التي يجب توفيرها لتمويل عمليات استيراد القمح والسلع الأساسية والوقود والأدوية وسداد أعباء الدين الخارجي من أقساط وأسعار فائدة.
على صانع القرار الاستفادة من موارد الدولة المحدودة في تمويل مشروعات تمثل أهمية استراتيجية للبلاد مثل الإنتاج الغذائي والحيواني والدوائي، وزيادة الإنفاق على الزراعة والصناعة وزيادة الإنتاج، والصادرات والمشروعات الصغيرة والمتوسطة التي توفر فرص عمل ضخمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.