فن صناعة الآلهة

عدد القراءات
889
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/05 الساعة 12:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/06 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش
فن صناعة الآلهة

في خضم اتصالي بصديقي المقيم في النمسا لأطمئن عليه وعلى أحواله، في ظل الظروف الصحية التي يعيشها العالم، من تفشي وباء كورونا، أخذنا الحديث إلى جهود الحكومات العربية والغربية والآسيوية والإفريقية في مكافحة الجائحة، ومدى شفافية الحكومات الغربية في الإفصاح عن الوضع الصحي المؤلم الذي تعيشه بلادهم، وعن مدى شجاعة تلك الحكومات في مواجهة الأزمة أمام معارضيها والرأي العام كافة. وتطرقنا لنجاح عدد من تلك الحكومات كألمانيا والنمسا في الحد من انتشار الفيروس والخروج حتى الآن بأقل خسائر ممكنة، وهو ما يكشف عن وعي عالٍ وإدراك لخطورة الفيروس وميكانيكية عمله وطفرات نشاطه وبدايات خموله، ما يعني أن تلك الحكومات درست بشكل واعٍ الموقف العام لنشاط الفيروس ودرست معه أنماط سلوك شعبها ووضعت في الاعتبار الوضع الاقتصادي والأمن المجتمعي قبل أن تضع سياساتها.

فوجئت بصديقي يسألني: بعد كل هذا الإطراء، ما عساك أن تفعل لو كنت مواطناً في هذه الدول أو حتى مقيماً؟

بلا تردد أجبت: أقل ما كنت سأفعل أن أكتب خطاب شكر لهذه الحكومة أو أكتب مقالاً مادحاً صنيعها أو أخرج في التلفاز أزكي صنيعها.       

فأجاب الصديق: لم أسمع حتى اللحظة من يقول: شكراً للحكومة على هذا الأداء البارع في إحدى الدولتين اللتين ذكرت، لا أحد يقول شكراً لكورتز، مستشار ألمانيا الشاب النشط، ولا أحد خرج كما أردت ليمدح القيادة الملهمة التي جابهت الفيروس بكل الحكمة، بل يرى الشعبان أن ما قامت به حكومتاهما لا يتعدى الواجب المفروض عليهما وأن الإجراءات التي اتخذتاها كانت مدروسة وملائمة للوضع والمرحلة، وإن لم تقم الحكومة بما فعلت فعليها أن ترحل، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً بصندوق الانتخاب، فكما عجلنا الانتخابات منذ أشهر، يمكن أن نعجلها ثانية.

إن مفهوم الشكر في هذه البلاد يختلف عما في بلادنا، فكورتز وأعضاء حكومته يتقاضون أجوراً شهرية عالية للقيام بدورهم في سياسة أمور هذا الشعب، ويسهرون على راحته، وحفظ أمنه، والصحة من واجبات الحكومة وعليها أن تؤمن متطلباتها وتحافظ على حياة مواطنيها، لأجل هذا وجدوا في مناصبهم، وشكرهم يكون بأن يعطيهم الشعب فرصة أخرى لقيادة هذه البلاد.. انتهت المكالمة لكن المقال لم ينته.

يحكى أن أحد الملوك استدعى الشعراء إلى قصره؛ فصادفهم شاعر فقير بيده جرة فارغة كان متوجهاً بها إلى النهر ليملأها، فرافق الشعراء إلى القصر لعلمه بإكرام الملك للشعراء والإنعام عليهم، فلما رأى الملك الرجل وعلى كتفه الجرة وثيابه رثه، سأله: من أنت؟ وما حاجتك؟

فأنشد الفقير:

لما رأيتُ القوم شدوا رحالهم    إلى بحرك الطَّامي أتيتُ بجرتي

فقال الملك: املأوا جرته ذهباً وفضةً.. هذا موروثنا وفي ذلك من القصص كثير، قد يكون أشهرها عطايا هارون الرشيد للأصمعي وبن أبي حفص (بكل بيت شعر عشرة آلاف درهم).

لقد أوصلنا هذا الحال إلى أن تزلفَ المحكومون للحكام وخلعوا عليهم صفات الإله، فلا يعتري الرئيس المرض ولا يموت وقد يذهب أحدهم بمخيلته أنه لا يأكل الطعام حتى لا يذهب للخلاء، فلا يستطيع أحد أن ينسى القضية التي اتهم فيها أحد الصحفيين عندما نشر خبراً عن صحة الرئيس السابق حسني مبارك، وكأن مبارك لا يمرض ولا يمكن أن يعتريه ما يعتري البشر، وتدرج الناس في تأليه حكامهم حتى وصل الحال بتأليه رئيس العمل، فكل رئيس في حياتنا إله. 

لقد تفننا نحن العرب منذ أن حكمنا الملك العضوض في صناعة الحاكم الإله، وإن كان تراثنا الحقيقي ومنابع علمنا وحفظة ديننا أدبونا على غير ذلك، فهذا يقول لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا)، وقالت إحداهن لعمر: (قال تعالى: وإن آتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)، فقال الرجاع أصابت امرأة وأخطأ عمر. 

لقد غيرت ثورات الربيع العربي كثيراً من طبائع الشعوب، وباتت محاسبة الحاكم والمسؤول إحدى عادات الشعوب، لذا تجد في المقابل القمع هو الرد المنطقي لدى المسؤولين تجاه من يسألهم، وتتنوع أشكال القمع وتتدرج بتدرج المسؤولية وحجمها، لكن المستغرب أنه لا يزال أحدهم يطالب بتأليهه ويحث على ذلك رغم هذا التحول في طبائع الشعوب، لدرجة تسلل هذا السلوك إلى الجماعات الدينية، حتى أصبحنا نسمع شباب بعض الجماعات: بوس إيد المسؤول قبل ما هو يقول.   

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ياسر عبدالعزيز
كاتب وباحث سياسي
ياسر عبد العزيز هو كاتب وباحث سياسي، حاصل على ليسانس الحقوق وماجستير في القانون العام. كما حاز على دبلوم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، وهو الآن عضو مجلس إدارة رابطة الإعلاميين المصريين بالخارج في اسطنبول ومدير مركز دعم اتخاذ القرار بحزب الوسط المصري.
تحميل المزيد