جائحة كورونا.. كيف حررت شهر رمضان من طقوس لا علاقة لها بالصيام؟

عدد القراءات
1,030
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/05 الساعة 12:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/05 الساعة 12:02 بتوقيت غرينتش

أطلّ رمضان هذا العام على الدنيا وقد اجتاحها وباءٌ قلب موازين الأرض وأطاح بمسلمات ونظريات كثيرة كانت قبل أيام تحكم تفكيرنا ونظرتنا لمعنى الاستقرار والتطور وموازين القوى وقراءتنا للمستقبل، وعصف الخوف والهلع بالعالم القوي قبل النامي، واتُّخذت التدابير للحد من انتشار الوباء. ومن أجل حماية الأرواح، اتبعت سياسة التباعد الاجتماعي وأغلقت المدارس والمساجد والأسواق، ولأول مرة استقبلنا رمضان بمشاعر اختلطت فيها الفرحة بالحيرة وشيء من الحزن، حيث لم يلقَ ضيفنا الكريم الحفاوة اللائقة في الاستقبال، وفي ظروف استثنائية، تحدث قادة العالم الإسلامي عن رمضان دون تجمعات، وحل رمضان بهدوء شديد في بيوتنا، فأثار تساؤلات كثيرة ما كانت لتخطر على بال.

كيف يكون رمضان دون سهر الليل في العبادة والسمر والتنافس في إطعام الصائمين وترتيب الموائد العامرة والإسراع للصلوات والزيارات وتلاوة القرآن في المساجد الفسيحة والتهجد في العشر الأواخر والاعتكاف؟ ولكثير من الشباب رمضان يعني السهر والشيشة حتى الصباح ومتابعة المسلسلات التي تتفنن في تمضية ساعات الصيام، وتحدث المتحدثون، وبكى الباكون عن غلق المساجد وبعضهم عن إغلاق المقاهي والمطاعم والأسواق وغنى كل على ليلاه.

فهل رمضان هو طقوس العبادة والاحتفاليات والأطعمة والتجمعات التي أصبحت ثقافة لمجتمعاتنا المسلمة أم فرصة سنوية لبناء الذات وتعهدها بالعناية ومراجعة حساباتنا مع الله ومع النفس ومع الناس من باب "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم؟". لابد لبلوغ هذه الأهداف من الخلوة بالنفس ومحاسبتها وإعادة الحسابات وترتيب الأولويات والمراجعة والسير في طريق العودة إلى الله، لذلك فإن رمضان شهر القيام والتأمل وقراءة القرآن والاعتكاف، وهو أقرب ما يكون في معانيه وأسراره ومقاصده إلى الحجر الصحي والروحي، إذ إنه يحقق بعض الانقطاع لتحقيق الهدف الأسمى من الصيام لتزكية النفس والترقي بها في مراتب الاستقامة والتنافس في العطاء، فقد كان النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) يستعد للمزيد من العبادة والعطاء وختم القرآن في رمضان كالريح المرسلة في رمضان. 

وقد ذكر أبوحامد الغزالي في الإحياء فوائد في فضل العزلة، مثل تحصيل الطاعات والمواظبة على العبادة والفكر والعلم والتخلص من ارتكاب المناهي التي تحصل بالمخالطة، كالرياء والغيبة والتخلص من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة ومن جلساء السوء، كما أشاد مالك بن نبي في كتابه "مجالس دمشق" بالعزلة الإيجابية فـ"الفرد المنعزل هو صناعة الجماعة فكلما أعطى الفرد المنعزل للجماعة استفاد هو شخصياً من الجماعة".

وأمام هذه المعطيات وواقع الجائحة والتي فرضت علينا حجراً إلزامياً، وجدنا أنفسنا نعيد التفكير في ماهية رمضان وكونه بطبيعته الأصلية عبادة فردية، فكل ما نقوم به في رمضان من قيام وصيام وصدقة قربات بين العبد وربه (الصوم لي وأنا أجزي به). غير أننا تعودنا وعلق في أذهاننا أن رمضان يعني العادات التي صنعناها بأنفسنا حتى طغت على ماهية الصوم والهدف الذي لأجله شُرع، فتحول إلى مهرجان للطعام والشراب والتسوق واحتفالات في الليل تصرف الناس عن ساعة تدبر أو عبادة، أو برامج ترفيهية رمضانية أنتجت خصيصاً لتلهي الصائمين. وأضحى التعريف برمضان على شاشاتنا حديثاً عن الأطباق الرمضانية المتنوعة والأجواء الاحتفالية.

لقد وضعتنا هذه التجربة أمام أمر واقع والحال أبلغ من كل مقال، لنعيد النظر في ممارساتنا الرمضانية وما يتحقق به مقصد عبادة الصيام، واتضح أن الحجر الصحي ليس إلا حماية لأنفسنا وأحبتنا وتقوية مناعة أجسامنا، "صوموا تصحّوا"، وهو قيمة مضافة لرعاية صحتنا النفسية والروحية والمعنوية في مواجهة الضيق والخوف، ومع أن الجائحة تحدٍّ لحياتنا واقتصادياتنا وفقد كثيرون أحبتهم وفجع العالم بفقد عدد هائل من أناس كانوا منذأيام أصحاء وسعداء، وهو محزن ويصيب الواحد منا بغصّة، لكن رغم ذلك لا يمكن ألا نعتبر هذا البلاء فرصة لبناء قدراتنا في الصبر والتحمل ورفع مناعتنا الداخلية كأفراد ومجتمعات في مواجهة الخوف من العدوى والاستعداد لتحديات أكبر، "ونبلوكم بالشر والخير فتنة"، فقد آن الأوان لإعادة ترتيب حياتنا من الداخل والنظر بعمق في المستقبل الذي سيفرض علينا تغييراً جذرياً في أنماط الحياة وفي التعامل مع الأزمات والتغيرات الثقافية والاجتماعية والتربوية والجيواقتصادية وما يصحبها من ثورة تكنولوجية عاصفة ستقلب حياتنا رأساً عن عقب.

وعلى مستوى العائلة يعتبر الحجر الصحي ورمضان هذا العام فرصة ذهبية لإعادة ترتيب بيوتنا من الداخل ومواجهة أنفسنا، فقد تعود كثير منا على روتين سريع ومشاغل لا تنتهي وتفاقم البعد بين الناس وغرق الجميع في همومهم وخصوصياتهم، ولم يعد من السهل إدراك المتغيرات الكثيرة التي بدأت منذ فترة تعبث بالعلاقات الأسرية والإجتماعية، والشح في استثمار الوقت مع الأبناء والأزواج والوالدين، فجاءت هذه الأزمة ليعي الجميع أهمية إحياء الروابط الأسرية وتقوية البنية الاجتماعية، لأننا نقضي الشهور لا نكاد نشعر بأننا فقدنا شرارة التواصل مع العائلة والأصدقاء والأحبة، هؤلاء الذين يحبوننا بعمق وإخلاص، في حين يمضي معظمنا الساعات الطوال دون كلل يتابع الحياة الشخصية لمشاهير منصات التواصل الاجتماعي، ويبدي الإعجاب ويعلق بسخاء ويوزع القلوب والأزهار في حين لا يوجه كلمة مجاملة واحدة لأخ أو ابن أو أب أو أم أو حتى زوج أو زوجة!

وطفا على السطح سؤال يتعلق بنجاعة وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق التواصل بين الناس، فقد تعرّت الثقافة السطحية التي هيمنت على منصات التواصل التي نتوقع أن تعمق التواصل الفعال وتبني الجسور وتترك الأثر الإيجابي في واقع الناس. ومع أننا لا ننكر الأفكار الرائعة والمبادرات الجميلة والآفاق الرحبة والفضاء المبدع والخبرات الإنسانية المتجددة التي ينشرها أناس رائعون على وسائل التواصل، غير أنها قطرة في بحر أمام الفيروسات الاجتماعية التي تفتك بقيم المجتمع، وعادات وممارسات فيروسية مدمرة لصحتنا النفسية وذاتنا والمعنوية، ما يستدعي وقفة تقييمية لعلاقتنا مع الواقع الافتراضي خلال هذا الشهر، وذلك بوضع معايير استباقية وقائية لحماية أنفسنا وشن حملات الوعي والتعريف بالأساليب الأكثر أماناً وفاعلية للتجديف في عالم ساحر وخطير من يسقط فيه على رأسه دون مهارات الأمان يغرق بلا رجعة، خصوصاً أننا نواجه تراجعاً ذريعاً في حسّ المسؤولية الاجتماعية وتصاعد ظاهرة الانطوائية وخللاً في التعامل مع العالم الحقيقي مقابل العالم الافتراضي، وعدم القدرة على تحديد الأولويات بوضوح، فمن الصعب أن يدرك مدمنو وسائل التواصل الاجتماعي أنهم في عالم غير حقيقي، وأن الدقيقة في رمضان تساوي عمراً، وصعبٌ أن يستوعب أحدهم هذا الكلام ولو نشرنا معه أجمل صورة. 

وفي هذا الجو الرمضاني الجميل يشغلني أيضاً سؤال آخر يتعلق بهذه المرحلة الاستثنائية من عمر البشرية والعالم الإسلامي، وتداعيات ثورة الأجيال التكنولوجية السريعة على علاقة المسلم بربه وبغيره، وماذا سيمثل المسجد للشباب والأجيال المستقبلية؟ إن الحجر الصحي لم يمنع من سريان الصدقات ووصول الإعانات الإنسانية وتدفق مبادرات العطاء في السر والعلن، ففي قلب الأزمة أتاح رمضان فرصة فريدة ونادرة للتأمل والتدبر ومراجعة النفس وإعادة ترتيب الأولويات الفردية والأسرية والاجتماعية وإحياء عادات اجتماعية كادت تندثر. فقد أدركت كثير من الأسر أهمية استثمار الزمن لتفعيل العلاقات الأسرية والتقارب والقراءة والنقاش والتعاون على أداء الواجبات اليومية بروح تشاركية عالية. ومع أن إغلاق المساجد حرم الكثير من أجر الاجتماع والجماعة، لكنه لم يمنع كثيراً من العائلات من إقامة صلاة التراويح في البيوت والتهجد في أجواء دافئة تبشر بانتعاش الروابط الاسرية، لقد اضطر كل مسلم أن يحمل محرابه في قلبه فقد جعلت الأرض لنا مسجداً.

وتنتابني تساؤلات كثيرة عن دور مؤسسة المسجد في أحلك الظروف وأثناء الطوارئ والأزمات، وهل إغلاق المساجد يعني إجازة مفتوحة للأئمة والوعاظ والمرشدين أم تكليفاً بمهام من نوع آخر يدركها فقهاء النوازل؟ فقد توقعت أن يدقّ الأئمة أبواب الناس وكبار السن وعائلات المصابين والفاقدين للتعزية والدعم النفسي. ومع ذلك وصلت للعالم هذا العام رسالةٌ مختلفة عن رمضان، عكست صوراً أخرى عن الإسلام والمسلمين في موسم الصيام وتحت وطأة الجائحة. والمتتبع لأخبار رمضان حول العالم يسعد بمبادرات المسلمين وغير المسلمين للتعريف بصور رمضان وثقافته في العطاء والتضامن المجتمعي والدعم النفسي وإطعام الطعام وغيرها من الشهادات التي جاءت على لسان كثير من قادة العالم وهم يهنئون المسلمين برمضان ويشكرون الجاليات الإسلامية على أدوارها الرائعة في التصدي لجائحة كورونا حول العالم. كما ازدهر العمل التطوعي خلال هذه الجائحة وتضاعف عدد المتطوعين حول العالم، وارتبط مفهوم رمضان بالتفاني في العمل وممارسة المسؤولية الاجتماعية بجدارة، وأجمل ما جاء به رمضان في جائحة الوباء الأعنف جرعة الأمان النفسي والسكينة التي تنزلت مع هذا الشهر الفضيل، وكما تعافت البيئة وصفا الماء والهواء ، فقد تطهّرت القلوب من أضغانها وشرورها استعداداً لأداء أدوار أكثر فاعلية في مواجهة التحديات القادمة. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

فضيلة قرين
مستشار سامٍ لدى منتدى التعاون الإسلامي للشباب
‎الدكتورة فضيلة، مستشارة سامية لدى منتدى التعاون الإسلامي للشباب في إسطنبول، شغلت سابقاً منصب مديرة الشؤون الأسرية والاجتماعية بمنظمة التعاون الإسلامي في جدة، وهي عضو مجلس إدارة في منظمات دولية مختلفة مثل المجلس الاستشاري للمرأة بمنظمة التعاون الإسلامي، والمجلس الاستشاري لمنتدى المرأة الأوروبية، ومجلس إدارة "لأنك إنسان"، المتخصص بالرفاه والصحة النفسية للاجئين، واتحاد المنظمات غير الحكومية في العالم الإسلامي، إسطنبول.
تحميل المزيد