كورونا في صنعاء والحوثي يرفض الاعتراف.. أين المفر؟

عدد القراءات
614
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/05 الساعة 11:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/05 الساعة 11:27 بتوقيت غرينتش

هناك مغارة خطرة في صنعاء اسمها "مستشفى الكويت"، يحال إليها المرضى المصابون بكوفيد-19 من مستشفيات عديدة، ثم تنقطع أخبارهم. الأطباء العاملون في مستشفى الكويت وضعوا تحت الرقابة وقيل لهم إن المعلومات الخاصة بالمرضى هي مسألة أمن قومي، وأن تلفوناتهم وحركتهم تحت الملاحظة.

فيما يشبه نداء الاستغاثة كتبت زميلتان من المغارة، من مستشفى الكويت، منشورين منفصلين. الأولى هي الطبيبة رانيا عبدالله، طبيبة تخدير وعناية مركزة في المستشفى. طالبت بحظر التجوال ونصحت الناس بأخذ الأمور على محمل الجد، وأضافت "الحالات كثيرة ووضعها حرج". 

الأخرى هي الطبيبة خديجة علي، قالت في ندائها "مستشفى الكويت يستغيث". ثم وجهت نداء إلى "الإخوة في المجلس السياسي" ساخرة منهم: ما بش فايدة من التعتيم الإعلامي.

الطبيبة الأولى اضطرت لحذف التدوينة التي كتبتها. الطبيبة الثانية أبقت على ما كتبته، فهي محمية داخل سياق اجتماعي معين.

اتخذت السلطات الحوثية قراراً بتحويل مستشفى الكويت إلى مركز للعزل. ألحقته هذا اليوم، بعد نقاش وجدال، بمستشفى زائد على أن يكون الأخير مركزاً لعزل الحالات المستقرة. تلقت إدارتا كل من مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا، والمستشفى الألماني إشعاراً بأن السلطات قد تلجأ "في القريب" لتحويل الصرحين إلى مركزي عزل. لماذا؟ سمع المسؤولون هذا الجواب: القدرة الاستيعابية للكويت والألماني توشك أن تنفد.

صنعاء تغرق شيئاً فشيئاًَ، هذا ما سمعته اليوم من عدد من الاستشاريين في المدينة. شيء واحد كان مشتركاً في حديثهم: الخوف والحيرة.

ماذا نعرف عن الحالات المرضية في مستشفى الكويت، مستشفى العزل؟

خلال الأيام الماضية أدخلت 18 حالة حرجة مصابة بكوفيد-19 إلى قسم العناية المركزة. لا يزال 12 منها على أجهزة التنفس الاصطناعي في وضع حرج، 3 حالات فارقت الحياة، وثلاث حالات اجتازت مرحلة الخطر وتم "فطمها" من على أجهزة التنفس وتحويلها إلى الأقسام العادية.

الوباء عار 

تحول الوباء إلى عار على المستوى الاجتماعي، وخيانة على المستوى الرسمي.

تخيلوا هذا المشهد:

ظهرت خمسة أطقم مسلحة في واحدة من حارات صنعاء، نهار هذا اليوم، وداهمت منزلاً يوجد به شخص يعاني من الحمى والسعال. بالنسبة لأسرته فقد كانت فضيحة بجلاجل. يتجه الجيران إلى مضايقة أهالي المصابين، وأحياناً يطلبون منهم الرحيل والجلاء. يتمالأ الجميع الآن على الكتمان لاتقاء عار ليس لهم يد فيه. الأطقم العسكرية تجوب أحياء العاصمة، تلفت أنظار الناس إلى حيث يوجد العار. قال طبيب مرموق، مقرب من السلطات الحاكمة، إن منظمة الصحة العالمية لديها معلومات عن حالات مصابة في صنعاء، صعدة وذمار، ولكنها ملتزمة بسياسة السلطات المحلية ولا تريد أن تدخل معها في مساجلات.

وبحسب استشاري عناية مركزة: يخشى المصابون وذووهم من التشهير. يشبه الأمر ما نعرفه عن فضيحة البغاء.

تواصلت مع ستة استشاريين هذا اليوم، أربعة منهم قالوا إنهم أغلقوا عياداتهم.

وأنا أكتب هذه التدوينة، للتو، تلقيت مكالمة من أسرة مريض في صنعاء. 

هكذا كانت القصة: ابننا [..] يعمل في مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا، خالط مريضاً أصيب بالفيروس، وهذه هي نتيجة الأشعة المقطعية التي أخذت للرئة. التقرير كلاسيكي، احتمال أن الشاب "المخالط"، الذي يعاني من أعراض خفيفة، قد أصيب. هكذا تقول الأشعة.

كارثة العلوم والتكنولوجيا

ولكن ما الذي حدث في مستشفى العلوم والتكنولوجيا بالأمس؟ 

موظف يعاني من مرض السكر، يبلغ من العمر 47 عاماً، يشتكي من السعال والحمى منذ أيام. تردد المريض على عدد من الوحدات، ومارس عمله في المستشفى واختلط بالموظفين والزوار كالعادة. بالأمس ساءت حالته، جاءت الفحوصات الفيروسية إيجابية، وعلى الفور نقل إلى مستشفى الكويت. هناك أنزل في العناية المركزة، وخلال ساعات قليلة كان قد وضع على التنفس الاصطناعي في وضع حرج للغاية.

كم ترك خلفه من مصابين؟ لا ندري، ولكننا نعرف جيداً أن هذا المريض ينتمي إلى مجموعة الـsuperspreader أو الناقل العملاق، وهم المصابون الذين من خلال حركتهم الكثيفة داخل المجتمع سينقلون العدوى إلى العشرات أو المئات.

السرية التامة 

بالأمس، في اجتماع السلطات الحوثية بمجموعة من الاستشاريين، رفضت السلطات مقترحات "الإفصاح عن الوباء". سمع الاستشاريون تبريرات دبلوماسية مثل: لا نريد أن ننشر الهلع، سترتفع الأسعار، وسيهرب الأطباء، دعوا الأمور كما هي فلا فرق.

هذه جريمة تاريخية، إهدار حق أمة بالحياة، ووضع شعب في محرقة. نعم، تشبه كل ما نعرفه عن المحارق في التاريخ من أيام ذي نواس.

الأسواق مكتظة، الحياة الاجتماعية قائمة بأكملها. الناس يعتقدون بأن الوباء بعيد عنهم، هذا ما تؤكده لهم السلطات. لذا فهم يخوضون حياتهم داخل الخطر، في قلب الوباء، مزودين بمعلومات كاذبة عن السلامة والأمن.

يظن الحوثيون أن الإعلان عن الوباء لن يصنع فارقاً، وبخلاف ذلك سيعقد عليهم مجموعة من الترتيبات، وفي مقدمتها ترتيباتهم العسكرية فهم في حالة حرب. سيهرب المجندون، وسيهب الآباء بحثاً عن أبنائهم الذين ذهبوا إلى الوباء. أمور كثيرة ليست في الحسبان ستفاجئهم، هكذا يعتقدون. فضلاً عن أنها منظومة غير مسؤولة، بالغت في وصف وباء كوليرا لتكسب من خلاله سياسياً ومالياً، إلا أن كورونا ليس كذلك.

الأطباء في خطر

ما تخوفنا منه في البداية يبدو في طريقه إلى التحقق بدرجة ما: أن يتمكن الهلع من الأطباء فيتركوا أماكنهم. شاهدنا تسجيلات مصورة من داخل مستشفيين في عدن وقد هجرهما كل الطاقم. المنظومة الصحية بلا سند، إذ هي محاطة بتنظيمات فاشية مسلحة (الحوثيون والانتقاليون) تملك سلطة بلا مشروعية، وتمارس الهيمنة بلا مسؤولية. سيلزم الجميع منازلهم ويطالب الطبيب بالخروج إلى الجبهة، إلى الحركة داخل منظومات عصابية تحتكر الحقيقة وتخفيها عنه، أن يعرض نفسه للفخاخ والمصائد مفتقراً لأبسط وسائل الحماية الذاتية: المعلومة. المعلومة هنا حاسمة، إخفاؤها يفسح المجال للهلع، والهلع والغموض سيدفعان الطبيب للهرب وترك المكان. لن يقاتل الأطباء في معركة يجهلون كل شيء عنها، ويفتقرون لآليات الحماية الذاتية، فضلاً عن جهلهم الشامل بحجم المشكلة التي يطلب منهم أن يساهموا في احتوائها.

قلت لأحد الاستشاريين: إذا انهار النظام الطبي وكان لابد أن يعيش شخص واحد فليكن الطبيب. قال لي إن ذلك ما كان يفكر به أيضاً. الليلة حدثني استشاري آخر من اليمن شمالاً، إليكم ما قاله، وهو استشاري مرموق في تخصصه، دون تدخل مني بعد حذف الجزء الخاص بي في النقاش:

"الأمر مرعب والله بكل ما تعني الكلمة. والناس غلابة مش عارفين حاجة والحكومتين ولا همهم. يا مروان لا يوجد أدنى وسائل الوقاية من الكمامات إلى الألبسة الخاصة. لا تلوموا القطاع الصحي إذا اعتزل وهرب البيت. لا نملك كمامة وغطاء رأس ناهيك عن الألبسة الخاصة".

نعم لا تلوموا أحداً من الأطباء إذا جلس في البيت. هل تعلم يا عزيزي أن من يتكلم بأن هناك حالات اشتباه فقط، تخفيه الأطقم الأمنية من الوجود. للأسف. والسجن أقرب بوابة للخروج وليس البيت. ما تم عمله من مراكز إيواء أو حجز كما يسمونها لا ترقى أن تأوي قططاً."

في هذا الوباء تركت كل دولة لتغرق وحيدة، وتخلى الشخص عن الشخص. ليست مبالغة إذا قلنا إنه مشهد قيامي، نفسي نفسي.

تذكروا اليمنيين الذين طالبوا بقتل المصاب في الشحر. الأنانية، الجهل، والهلع، كل ذلك يحول الأفراد إلى مجرمين والدول إلى قراصنة. تذكروا إيطاليا الوحيدة. العدو الأول لك هو "الإنكار"، ثم الوباء.

تعرفون جميعكم ما الذي عليكم فعله، يتعلق الأمر بالحياة والموت في أوقات كثيرة. وفوق هذا يتعلق بالأمن الاجتماعي وبسلامة النظام الصحي وقدرته على الصمود.

من خبرتي الشخصية فإن شكل الحياة داخل المشافي يتغير بشكل راديكالي، ويحل الوسواس محل المعرفة وتصبح مهنة الطبيب مهنة خطرة. تخيل نفسك، كطبيب، وأنت عائد إلى منزلك مع احتمال أن تكون قد عدت بالشيطان في ثيابك لتضعه في رئة أطفالك. هذا هو شعوري اليومي خلال الشهرين الماضيين. لا توجد متعة ولا رومانسية في هذه الأجواء.

تخيلوا، وأجيبوا:

بماذا يفكر الطبيب في اليمن وهو عار من كل شيء، من وسائل الحماية، من المعلومة، من الإحساس بوجود الدولة، ومن الغطاء الطبي فيما لو سقط ضحية للوباء؟

بالهرب، بالانعزال في البيت، بالخلاص الفردي؟

ربما..

إذن فتلك الأشياء الهشة ستتداعى خلال وقت قصير.

سيصاب الأطباء في الحركة القادمة، فقد نقل مسؤول طب الطوارئ في أكبر مشافي العاصمة إلى مستشفى العزل بعد تأكد إصابته. وفي الأيام الماضية خرج مجموعة من الأطباء من الحجر الصحي بعد أن قضوا 14 يوماً عقب مخالطتهم لمرضى تأكدت إصابتهم [لاحظوا أننا نتحدث عن وباء يعمل منذ أسابيع، وعن أطباء دخلوا الحجر وخرجوا].

ثم سيصاب المسلحون الحوثيون، ثم سيتسع الوباء ويفترس كل العاصمة طولاً وعرضاً وسيهرب أولئك الذين اعتقدوا أنه وباء خاص بالفقراء وأبناء القبائل.

هذا ليس تنجيماً، هذه احتمالات ممكنة وقد لا تقع.

ثمة موقف أخلاقي واحد، في هذه اللحظة، وهو الضغط على السلطات الحوثية للكشف عن الحقيقة حتى يعرف الناس الخطر ومداه.

وثمة موقف واحد صحيح: أن يعلم الناس أن هناك وباء حقيقياً، ينتشر كالنار في العشب الجاف، وأن عليهم أن يعزلوا أنفسهم وأن يحموا أسرهم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مروان الغفوري
روائي وكاتب من اليمن، يعيش في ألمانيا. مهتم بقضايا الديموقراطية والثورة.
طبيب وروائي وكاتب من اليمن، يعيش في ألمانيا. مهتم بقضايا الديموقراطية والثورة.
تحميل المزيد