مدينتنا ومدينتهم

عدد القراءات
1,941
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/04 الساعة 13:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/04 الساعة 13:01 بتوقيت غرينتش
يوسف الدموكي

حين خلق الله البشر فإنه صنع معظمهم من طينٍ، وصنع بعضهم من "كريم شانتيه"، وحاشا لله، هذا ما يحاول "شعب الله المختار" إيصاله إلينا، بأنهم يشبه بعضهم بعضاً، أما نحن، ولاد البطة السودا، فلا نمتّ لهم بصِلة، ولا تعني بطاقة الهوية المكتوب فوقها "جمهورية مصر العربية" أننا شعبٌ واحد، ربما لو ترشح أحدهم بالبرلمان وكانت لهم "كوتة"، سيقترح بطاقة هوية مغايرة، لا تكون برتقالية ولا سماوية، وإنما فوشيه، تميزهم عن بقية خلق الله المنبوذين.

منذ خلق الله الأرض ومَن عليها، جعل مَن فيها في طبقاتٍ من حيث أشياء كثيرة، الفقر والغنى أبرز تلك الأسس، لكن قال إنه جعل بعضهم لبعض سخريّاً، وذلك من التسخير لا من السخرية، وجعل بعضهم فوق بعض درجات، ليبلوهم، من الاختبار لا من البلوى، وجعل في مال هذا حظّاً لذاك، وجعل في عرَق هذا منفعة لذاك، وجعل في اليد الخشنة راحة اليد الناعمة، وجعل في اليد الناعمة رزق اليد الخشنة، وعلى هذا الأساس بُنيت المجتمعات وتأسست المدن، إلى أن تأسست "مدينتي" -مدينة هشام طلعت مصطفى-، فهدمت كل هذه الأسس، وقرر الرجل بناء دستور جديد، يقول: "هنا أحسن، هنا كله بيشبه بعض، هنا مفيش زيه في العالم ولا حتى في مصر". هنا عالم آخر، كوكبٌ مختلف، مدينة فاضلة، يا فقرا يا ولاد الكلب، لا أعلم إن كان تحرير الموقع سيمسح الجملة الأخيرة أو يسمح بها، لكنني أوضح لزميلي المدقق أن "ولاد الكلب" وصف ساخر لا شتيمة، وذلك استناداً إلى الأستاذ الأبنودي الذي قال "إحنا ولاد الكلب الشعب".

في مدينتهم، وكل المدن التي تأتي من خلفهم، وبالطبع لا تشبههم كي لا يرفعوا عليّ قضية ازدراء أديان، وأجل ازدراء "أديان"، لأن هناك ديناً آخر يعبدون فيه الجنيه بدلاً من الله، جملة التوحيد فيه "هين نفسك ولا تهين قرشك"، المهم، في مدينتهم تدخل السيدة فتشعر بأنها "في مكان تاني في دنيا تانية"، ولها الحق في ذلك، فإن الرجل ضرب لهم سوراً له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهرُه من قبَله العذاب، حجاباً كبيراً، يشبه الحجاب الحاجز في جسد الإنسان، بالأعلى تجد الرئتين والصدر والرقبة والوجه وكل ذلك الجمال الراقي، وتحت الحجاب الحاجز تقابلك الأمعاء وعالم ما بعد الأمعاء، وبالتأكيد، مَن يسكن القلب ليس كمن يسكن المؤخرة.

في مدينتهم أيضاً، لا مكان يشبههم حتى الآن، وإذا حاولتَ التفكير في أن تتساوى الرؤوس ويكون لك مكانٌ مثلهم به من الحقوق الآدمية ما هو متاحٌ لهم، سيخبرك رجلٌ آخر، بأن ذلك الإبداع في التصميم لا يأتي إلا مرةً كل 20 30 سنة، حتى لا يخونك خيالك، فإنك في أفضل الأحوال ربما يحالفك الحظ لكن بعد عمرٍ طويل، وحينها سيكونون هم في مشروعٍ آخر ربما سيسمونه "كوكبي"، بينما أنت في "مدينتي" التي تشبه ألف "مدينتي أخرى" وصل إليها الفقراء في معجزة جماعية، وتتفاجأ بإعلانٍ جديد لهم عن "كوكبي" لحفيد طلعت مصطفى، ويتحدث فيه أحفاد هؤلاء، ولن يكون في رمضان، لأنهم حينها في الغالب سيلغون التقويم الهجري.

في مدينتهم، تعود السيدة من إنجلترا لتقرر السكن في "مدينتي" دون تردد، وهي لم تخبرنا أن في إنجلترا طرز الحياة المعقول والسكن الآدمي والمساحات الخضراء والهواء النظيف، كلها حقوق مكفولة للمواطنين، في إنجلترا وغيرها من بلاد كثيرة خارج عالمنا، وليس مدعاةً للفخر أبداً أن تباهينا بعودتها من المملكة المتحدة إلى مملكة طلعت مصطفى، والممالك التي تجاورها، حيث يعيش نصف مليون إنسان بمصرهم، بينما تعج مصرنا بمئة مليون إنسان لا يرون ما رأى هؤلاء، إلا في إعلانهم بالتلفاز، وشتان بين الممالك والمماليك.

في مدينتهم؛ "هنا الحياة حلوة، مفيش تلوث"، ومن خلفها تكتمل الجملة في عقلك كالتالي: هاشتاغ #مقصودة، وتكمل سيدة فاضلة أخرى "مساحات واسعة بين البيوت، فاهمين يعني إيه privacy"، وذلك بالطبع ما لا يفهمه الآخرون من ولاد الـ…، الذين يسكنون في حضن بعض، ولماذا لا يتركون مسافات كافية؟ ولماذا لا يزيلون بعض العمائر لصالح الخصوصية بين البلكونات، وكيف يعيشون هكذا "وشهم في وش بعض".

في مدينتهم، هدوء ومساحات خضراء، و"كيدز إيريا في كل حتة"، وذلك لأن مناطق لعب الأطفال رفاهية لا يُسمح بها إلا لأولاد الأغنياء فقط، أما ولاد الـ…، أو أبناء ولاد الـ…، فعليهم ألا يلعبوا أصلاً، وهذا طبعاً "غير الجناين"، لأن رؤية الأشجار واللعب في المساحات الواسعة حق للذين يتنفسون الأوكسجين، أما مَن هم خارج ذلك المكان، ممن يتنفسون عوادم السيارات، فلا حق لهم في رؤية المساحات الخضراء إلا على المحور، في لوحات إعلانات "مدينتي".

في مدينتهم، "مش مضطرين كتير يطلعوا من مدينتي"، فالخروج للضرورة القصوى، والخروج كابوس مخيف، والخروج يشبه خروج آدم من الجنة، وحينها ستبدو لهم سوءاتهم، أولئك الذين ينامون عراةً في شوارع المحروسة، وحين يخرجون يسمونه "اضطراراً للخروج"، وإيه رماك على المر؟ وتكاد السيدة تبكي لأنها أحياناً تسافر من كوكبهم إلى كوكب آخر، مستقلةً مكوكاً ماركة "مارسيدس"، ويكمل الرجل الوقور متأبطاً يديه: "ممكن أقعد سنة كاملة ماخرجش منها"، وفي ذلك بالتأكيد رحمة له؛ لأنه لن يقابل الملايين من أبناء الطبقة الكادحة، من عامة الناس، وأول سؤال يخطر ببالنا نحن ولاد الـ… الشعب، هو "وكيف لا تخرج لمدة عام، ألا تذهب إلى العمل؟"، وذلك بالطبع سؤال مثير للسخرية والشفقة، لم يكن من الصحيح الإقدام عليه أصلاً.

في مدينتهم، "مهتمين جداً بيها ودايماً يجددوا الحاجات فيها"، ويأتي هنا إلى بالي النخلة الراقدة على الترعة، ممدودة بين طرفيها، نسير فوقها كأننا قرود في سيرك، لنعبر من الطريق العام إلى المدرسة، وظللنا طوال سنوات الدراسة نعبر النخلة نفسها كل يوم، إلى أن تركناها، وفي النهاية لم يهتموا بهذه الرفاهيات، ولم يجددوا الحاجات، لم يبنوا "كوبري" وإنما ردموا الترعة.

في مدينتهم، "الناس كلها شبه بعض والكومينتي حلوة أوي"، وبالطبع لا أحتاج إلى توضيح أننا أيضاً شبه بعض، هذه ليست معضلة، لكن تكملة الجملة ربما كانت "الناس هنا كلها شبه بعض، مش شبهكم"، ثم يأتي الكائن المتحدث عن "الجيرة الحلوة"، وهنا ستفور دواخلنا وتشتاط صدورنا، ونبخ ناراً من أفواهنا، لأن موضوع الجيرة هذا تحديداً يخصنا نحن أكثر.

في مدينتهم، "مية الصرف بتتعالج وتسقي الزرع"، وبالطبع عندنا مية الصرف لا تعالج، ورغم ذلك، تسقي البني آدمين، وعندهم أيضاً ينزلون من بيوتهم في أي وقت شاعرين بالأمان والطمأنينة، بينما لدينا زومبيز يأكلون الناس الماشية ليلاً.

وعندهم في مدينتهم ياللعجب، "الأتوبيسات مكيفة، وشبكة المواصلات تحفة ولا في ألمانيا"، -بالطبع تقصد المواصلات التي توصلها من مكان إلى مكان داخل عالمهم لأن أتوبيساتهم المكيفة إذا خرجت إلى ولاد الـ…. الشعب، "هتتركب".

"كل حاجة موجودة، معايير الجودة العالمية في المراكز الطبية، مكتبة كبيرة من أكبر مكتبات مصر"؛ قررت ألا أكمل الإعلان لكن استوقفتني جملة استفزتني "هنا في ذوق، في شياكة"، وأنا أقسم بالله أن فستان جدتي في صغرها ربما لا تكافؤه شياكة فساتينهنّ مجتمعةً في القرن الواحد والعشرين بالمدينة الفاضلة، والمستفز الآخر: "محمد صلاح الجديد جاي من هنا"، وأنا أحب أن أقول له إن محمد صلاح الذي لا يتكرر، آتٍ من هناك، من نجريج، حيث لا توجد مساحات خضراء غير التي ترعى فيها البهائم، ولا ملاعب ولا أندية، فلا تقفزوا بلزوجةٍ على نجاحات الآخرين ومسيرة كفاحهم، خصوصاً إن قطعوها بالقطار لا بالبورش.

وينتهي الإعلان أخيراً، الذي أرهقتكم معي في تفاصيله بجملة كرتونية مبتذلة تمتلئ باللزوجة والقرف: "هي دي بوابة السعادة"، وأنا الحقيقة أعرف أناساً كثيرين، أبواب بيوتهم من خشبٍ مهترئ أو حديد صدئ، لكنها بالنسبة لهم أجمل من "باب مدينتي" وبالنسبة لهم "بوابة السعادة".

ربما لا يلتفت أصحاب الإعلانات في مصر، خصوصاً إن كانت على شاكلة هذا الإعلان، بأن فئتهم المستهدفة لن تقرر شراء فيلا عندما تراها على التلفاز، ولن تذهب إلى مكتب العقارات في مدينتهم تأثراً بالإعلان العاطفي الجميل الذي أشعل مشاعر الراحة في وجدانهم، حتى لا نتحدث كثيراً عن علم التسويق والفئات المستهدفة.

ببساطةٍ، المشاهد الوحيد نحن، أبناء مدينتنا، المدينة التي لم يسمحوا لها بالمساحات الخضراء بين وحداتهم السكنية، فعوضهم الله بها مساحاتٍ خضراء في قلوبهم، ولم يبنوا لها نادياً تحت مجمعهم، فأنشأوا هم نواديهم على المصاطب وفي مداخل العمارات، ولم يؤسسوا لهم صالة ألعاب رياضية، فوضعوا حجرين بعرض الشارع، وجعلوه مرمى، وبين المرمى الذي من حجارة أو شباشب، أحرز محمد صلاح هدفه الأول، ثم كبر وصار "مو"، الذي يحرز في "الكامب نو".

في مدينتنا، لم يخصصوا مكاناً لاجتماع "الجيرة الحلوة"، فكانت بيوتنا كلها أماكن الاجتماع، ويُفتح البيت تلو البيت في الشارع ليسع من الحبايب ألفاً، ونتأكد من موضوع الجيرة الحلوة هذا بمواقف أكثر أهمية من التجمع حول "الشواية" أو الجلوس في "الكافيه" بعطلة نهاية الأسبوع، نتأكد منها حين يكون في جيبي جنيه وأقسمه نصفين، وتكون في يدي لقمةٌ وأقسمها نصفين، فلا أدفأ وجاري يرتعد، ولا أشبع وجاري جوعان، لأنه كيف يكون اختبار الجيرة الحلوة حين تكون بين اثنين من المصابين بالتخمة؟ فإنني حين كنت صغيرا عرفت الجيرة الحلوة حين نشأت بين أمي وجارتنا علاقة قائمة على "ملاقيش عندك بصلتين يام يوسف؟".

في مدينتنا، يشبه بعضنا بعضا، مهما علا مبنى وانخفض آخر بجواره، مهما ارتدى فلان ولم يرتدِ علان، مهما ركب هذا وسار على قدميه ذاك، فإنه رغم الفروق كلها، نصرّ جميعاً على أننا من الطينة نفسها، متشابهين، وسيارتي سيارتك، وبيتي بيتك، وصالوني الواسع يتشرف بضيوفك القادمين من بعيد وبيتك أضيق من أن يستقبلهم، وزوجتي معينةٌ لزوجتك في المطبخ تعدان للضيوف الطعام، وراتبي يعين راتبك هذا الشهر لأن الأمور لديك لم تسر على ما يرام، وما الفرق بيننا؟ لا فرق، لأنه في النهاية، والحمد لله، "مجتمع" لا "كومينتي".

وأنا بالتأكيد لا أحتقر فئة من الناس، حتى وإن احتقرَنَا متصدرو الواجهة منهم، لأننا ببساطة لا يجب أن نشبههم، خصوصاً في نظرة بعضهم للآخرين، في طبقيتهم الملعونة، في مرضهم النفسي الجماعي الكبير، الذي يخيل لهم الدنيا ملكهم، ولا يرون الذين في الأسفل إلا "سايس" أو "جزمجي" أو "سواق"، مع تقديري الكامل لكل هذه المهن، لكنني أتحدث الآن من زاويتهم، وربما بعد المقال سأحتاج إلى حمامٍ دافئ يطهرني من اللحظة التي وضعتُ نفسي فيها مكانهم.

وإن كنا في موضعٍ للتفاخر بالأماكن التي تشبهنا وننتمي إليها، فأنا أفخر بمدينتنا العارية عن مدينتهم "اللابسة"، لأنه "ياما ناس لابسة بس قليلة الرباية".

وهنا لا ننسى، أن نلتفت إلى الدولة، التي ظنّ بفضلها الأغنياء أن "المساحات الخضراء" رفاهية من حقهم وحدهم، وظن بسببها الفقراء أنهم لا بد أن يعيشوا عيشة أهلهم، فلا يرفعوا رؤوسهم إلى الأعلى، وليبقوا "ماشيين جوة الحيط"، حتى لا تدهسهم السيارات الفارهة، والمفارقة أن ذلك "الحيط" الذي تطالب الدولة عامة الشعب بأن يبقوا داخله يزدردون حجارته، هي أنها على الجانب الآخر منه، ترسم عليه فراشاتٍ للأثرياء حتى لا تمل عيونهم، وتصوره لهم الأمان الذي يتحركون في نطاقه، دون أن يوجع ضمائرَهم أن هناك 100 مليون محبوسٍ داخل ذلك السور، محظورين من الكلام، وممنوعين من رفع رؤوسهم، حتى لا يَفزع الأغنياء.

نحن يا سيدي المسؤول نعيش في رواية، في مجتمع لا يتحمل أثرياء "مدينتهم" فيه الذنب وحدهم، بل هو ذنبك أنت حين منحتهم ذلك الصك أولاً، أنت من أسست لجمهورية الغلابة ومملكة الديابة، أنت من وضعت سلكاً شائكاً بين نصفين من أرض الوطن، النصف الأول يساوي النصف الثاني في المساحة، لكن بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تقول إن الفرق في الكثافة كارثي، إن النصف الأول يسكنه "نُص في المية" من الشعب، بينما يسكن النصف الثاني 99.5% من الشعب، فكان من البديهيّ جداً، أن يرى أولئك مساحات خضراء، بينما لا يستطيع هؤلاء أن يروا أنفسهم في المرآة حتى.

نحن في القاع، نحن بالأسفل، هل تسمعوننا؟ نحن البعيدون يا عرش الأقارب، نحن المطحونون تحت عجلات القطارات، المتكدسون في النقل العام، المهددون في البيوت الآيلة للسقوط، نحن سكان المقابر يا مقابر السكان، نحن شعب الطوابير على "بوابة سعادة" الوزير، نحن الوطن يا دولة، نحن "ولاد الكلب الشعب".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد