أتى علينا رمضان هذا العام وأبواب المساجد موصدة، ويعزّ على الناس أن يحرموا من صلاة التراويح في المساجد، وقد كانت لدى البعض أسئلة من قبيل: كيف يصلي الناس التراويح؟ وهل تشرع في البيت جماعة أم لا؟ وما حكم الصلاة خلف المذياع أو البث الحيّ؟ وأود أن أفصل إجابات هذه الأسئلة التي وردتني على هذا النحو:
أولاً: حكم صلاة التراويح وحكم الجماعة فيها:
إن االفقهاء قد اتفقوا على أن صلاة التراويح سنة[1]. وقد فصلوا الحكم فيها كما يلي:
1- قال الحنفية: صلاة التراويح بالجماعة سنة على الكفاية في الأصح، فلو تركها الكل أساءوا.
2- قال المالكية: تندب صلاة التراويح في البيوت إن لم تعطل المساجد.
3- قال الشافعية: تسن الجماعة في التراويح على الأصح؛ ومقابل الأصح عندهم أن الانفراد بصلاة التراويح أفضل.
4- قال الحنابلة: صلاة التراويح جماعة أفضل من صلاتها فرادى[2].
هل تصح صلاة التراويح خلف المذياع أو البث المباشر؟
أما صلاة التراويح خلف المذياع أو البث المباشر فهي غير جائزة، وقد ذكرتُ لكم أدلة بطلان ذلك في صلاة الجمعة، وأُجمل القول هنا على هذا النحو:
1- من العلماء من ذهب إلى كون صلاة التراويح في البيت أفضل، وهذا قول مالك والشافعية، وإذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلى شيخ يتلو عن بُعد.
2- صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد النبوي وفي جوف الكعبة! روى البخاري ومسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "… فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ[3]". والعجيب هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا وهو يتحدث إلى أصحابه في مسجده، قال ابن عبد البر: وإذا كانت النافلة في البيوت أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما ظنك بها في غير ذلك الموضع[4]؟!
ولقد أشار ابن علان إلى كون صلاة النافلة في البيت أفضل من جوف الكعبة، فقال: وصلاة النافلة ببيت الإنسان أفضل من فعلها في جوف الكعبة[5]. وبهذا قال علماء آخرون كالمناوي: النفل في البيت أفضل منه في المسجد؛ ولو بالمسجد الحرام[6]. وانظر إلى هذا الثواب العظيم الذي ضيعنا منه الكثير؛ روى ابن أبي شيبة في مصنفه عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قَالَ: "تَطَوُّعُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ يَزِيدُ عَلَى تَطَوُّعِهِ عِنْدَ النَّاسِ، كَفَضْلِ صَلاَةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاَتِهِ وَحْدَهُ[7]".
3- الأصل في الصلاة الاتباع لا الابتداع، إذ الصلاة عبادة توقيفية، وهذه الصورة صورة محدثة لم يأتِ بها كتاب ولا سنة، وقد روى البخاري عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "وصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي[8]".
4- الصلاة بهذه الكيفية ستوقع أصحابها في مخالفات شرعية، ومنها:
- التقدم على الإمام في المكان: وقد اعتبر جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والحنابلة) هذا شرطاً[9]، والعلماء يعتبرون التقدم على الإمام وعدمه بالعقب (وهو مؤخر القدم لا الكعب) لذا فلو كان المأموم طويلاً وسجد قدام الإمام فصلاته صحيحة. فانظر كيف اعتبر الأئمة التقدم بــ(العقب)، ثم يأتي من يقول بالتقدم ولو مئات وآلاف الأذرع.
- عدم الفصل بين المقتدي والإمام: حيث يشترط لصحة الاقتداء والصلاة ألا يكون بين المأموم والإمام فاصل كبير. وهذا الشرط محل اتفاق بين فقهاء المذاهب في الجملة، وإن اختلفوا في بعض الفروع والتفاصيل[10].
- لقد تحدث الفقهاء عن قطع الصفوف بطريق أو نهر، وتحدثوا عن الصغير والكبير من الطرق أو الأنهر، وراعوا في ذلك عدم الفصل لتتحقق الجماعة، فكيف بمن يفصل بينهم البنيان والعمران والفضاء والصحاري والبحار والأنهار؟!
- تغاير المكان: إذ يشترط لصحة الاقتداء أن يجمع المقتدي "المأموم" والإمام في موقف واحد، إذ من مقاصد صلاة الجماعة والاقتداء اجتماع جمع في مكان، كما عهدنا عليه الجماعات في الأعصر الخالية[11].
وقد تكلم الفقهاء في الصلاة في سفينتين في مكان واحد، واعتبروا القرب واللصوق شرطاً لصحة الاقتداء، لكن الحاصل في الصلاة خلف المذياع أنها صلاة لا قرب فيها ولا تلاصق ولا اتحاد.
- عدم توسط النساء بين الإمام والمأموم: حيث يشترط لصحة الاقتداء وصلاة الجماعة عند الجمهور عدم توسط النساء، فإن وقفت المرأة في صف الرجل كُره ذلك، لكن لم تبطل صلاتها، لا صلاة من يليها، ولا من خلفها[12].
- اختلاف القبلة: حيث سيكون لكل فرد قبلة، خصوصاً إذا تباعدت المسافات وتعددت الأمكنة، وفي هذه الحال تكون قبلة الإمام غير قبلة المأموم.
- صلاة الناس في بيوتهم هي عودة إلى الأصل، إذ النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى التراويح في المسجد إلا أياماً معدودات.
فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ -أَوْ ثَلاَثًا- حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَخْرُجْ…[13]".
شبهات والرد عليها:
وقد ذكر البعض أسباباً للصلاة بهذه الكيفية، ومنها:
1- (كورونا) قد يبقى فينا شهوراً وأعواماً:
ويجاب عن ذلك: هذا في علم الغيب، حتى وإن بقي شهوراً وأعواماً فليس من مانع أن يكون للنازلة اجتهاد لا يخالف النص، والنص يعيدنا إلى أصل صلاة النافلة والذي هو الصلاة في البيت.
2- بعض الناس لا يجيدون قراءة القرآن:
ويجاب عن ذلك: ومن قال بأن الناس على مرّ التاريخ كانوا يجيدون تلاوة القرآن؟ إن المطلوب هو أداء هذه النافلة، وهي تؤتى بقصار السور كما تؤتى بالطوال، وليس من مانع من أن يقرأ المرء من المصحف، روى البخاري معلقاً: كَانَتْ عَائِشَةُ: "يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ المُصْحَفِ" قال النووي: لو قرأ القرآن من المصحف لم تبطل صلاته سواء كان يحفظه أم لا، بل يجب عليه ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة كما سبق، ولو قلب أوراقه أحياناً في صلاته لم تبطل[14].
3- قد تباع المساجد في الغرب:
ويجاب عن ذلك: ينبغي على القائمين في الغرب أن يطوروا من أنفسهم في جمع الأموال اللازمة للإنفاق على المساجد والمراكز الإسلامية، وأن يتعاملوا مع الشركات التي لها اعتناء بهذه الفكرة، حتى وإن أخذوا قسطاً من ذلك، بل أقول ينبغي على القائمين على العمل الإسلامي أن يخرجوا من بوتقة الجمع المستمر إلى فكرة الوقف الذي يدرّ مالاً، وصون المراكز من الجمع المستمر.
4- قد يعزف الناس عن الصلاة بعد (كورونا) فيتركونها:
ويجاب عن ذلك: بأننا ينبغي أن نوجد الحل لكل أزمة، لكن من داخل الدين لا من خارجه، ولهذا ينبغي أن يكون هناك ما يربط الناس بالمسجد من خلال الدروس والمواعظ وحلقات القرآن، بل ينبغي أن يكون للمسجد دور في تخفيف معاناة الناس، وهذا يكون بتشكيل لجنة من أهل المسجد، بل عدة لجان، يكون لكل واحد دور، وبهذا نربط الناس بالمسجد، بالمشروع لا الممنوع.
[1] الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 137).
[2] الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 147).
[3] رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (730).
[4] الاستذكار (2/ 143).
[5] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/ 601).
[6] فيض القدير (1/ 418).
[7] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 407) وصححه الألباني في الصحيحة (3149).
[8] رواه البخاري في الأذان (631).
[9] الموسوعة الفقهية الكويتية (6/ 21).
[10] المرجع السابق.
[11] المرجع السابق.
[12] المرجع السابق.
[13] رواه البخاري في صلاة الترويح (2010).
[14] المجموع شرح المهذب (4/ 95).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.