هوبز في الصين.. هل الاستبداد هو الحل؟

عدد القراءات
2,208
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/02 الساعة 13:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/02 الساعة 13:16 بتوقيت غرينتش
هوبز في الصين.. هل الاستبداد هو الحل؟

يتعرض العالم الآن إلى جائحة صحية لم يتعرض لها منذ عقود، حيث يتفشى فيروس كوفيد-19 كالنار في الهشيم. استطاع الفيروس إصابة أكثر من ثلاثة ملايين شخص وتسبب في وفاة أكثر من 200 ألف حتى اللحظة، وذلك منذ ظهوره في مقاطعة ووهان الصينية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي. تكمن خطورة هذا الفيروس في أنه لا يضع فقط القطاعات الطبية بمختلف مؤسساتها وأجهزتها تحت الضغط والاختبار العنيف، بل يضع العالم بأسره في اختبار مفصلي، حيث يجبر البشر على إعادة النظر في مفاهيم عدة في شتى المجالات، ولعل واحداً من أبرز المصطلحات والمفاهيم التي ينظر إليها العالم الآن بتشكك وأمل وثقة متذبذبة هو مفهوم "الدولة"، والسؤال حول مدى فاعليتها وقدرتها على الخروج بالمجتمعات من هذه الجائحة إلى بر الأمان. لذلك يوضع الآن الكثير من علامات الاستفهام حول ماهية وشكل الدولة الأمثل، والفلسفة والأيديولوجية الكامنة التي تقوم عليها الدولة، لنعرف تحت أي منها تقوم الدولة بواجباتها وعملها بكفاءة أكبر وفاعلية نفاذة. لأن تلك الفلسفة هي التي تحدد نطاق فعل الدولة، وترسم الإجراءات التي ستتخذها وكيفية اتخاذها وتطبيقها ومدى سرعتها.

لمحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات دعنا نتخيل مفهوم وشكل الدولة من منظورين فلسفيين، لاثنين من أهم الفلاسفة السياسيين في التاريخ الحديث، أحدهم الإنجليزي  توماس هوبز الذي يعتبر من أهم فلاسفة العقد الاجتماعي والثاني هو الفيلسوف الهولندي الشهير اسبينوزا.

هوبز في الصين 

حاول هوبز تصور بناء دولة مدنية غير قابلة للدمار من الداخل (اللفياثان) أو الدولة التنين. لفهم تصورات هوبز التي أدت لوضع نظريته يجب النظر إلى الظرف التاريخي الذي عاش خلاله في القرن السابع عشر الميلادي. فقد شهدت المدينة الإنجليزية آنذاك تفككاً سياسياً أدى إلى حرب أهلية في المدينة، وهو ما أدى إلى تولد إيمان تام لدى هوبز أن السلطة لابد وأن تكون مطلقة لتحول دون حرب أهلية أو حالة فوضى، الذي مثلها في تصوراته تحت اسم حالة الطبيعة الأولى. على أن تكون هذه السلطة المطلقة مستمدة من التنازل الطوعي من المواطنين عن سلطتهم للسلطة. 

ليفياثان هوبز

تعتبر نظرية هوبز أهم عمل أنتجه الفكر الإنجليزي في الفلسفة السياسية التي انطلقت من رؤيته للطبيعة الإنسانية التي تقوم على "الأنانية الفردية"، وهي رؤية ميكانيكية للكون والحياة والطبيعة. وقد انطلق هوبز من هذا الاعتقاد عن الطبيعة البشرية إلى تصور الحالة الطبيعية الأولى للمجتمع  كحالة صراع، وحرب الكل ضد الكل، وسيادة قانون الغاب. وذلك ناتج عن طبيعة الإنسان الميالة للشر وغلبة الأنانية على سلوك الأفراد في سعيهم الدائم للمحافظة على النفس. لذلك يرى هوبز وضع "عقد اجتماعي" (أي العقد المبرم بشكل فعلي أو افتراضي بين الحكومه والشعب أو الحاكم والمحكوم)، من خلاله يتم تكريس سلطة مطلقة يعتقد أن بها تتحقق مصلحة الأفراد وتتم حمايتهم من شرور بعضهم البعض. ويكون أطراف العقد هم الأفراد وحدهم، ولن يكون الحاكم طرفاً فيه. ويكون جوهر العقد: تنازل الأفراد كلياً ونهائياً عن حقوقهم وحرياتهم للشخص الحاكم الذي يتولى المحافظة على المجتمع. وعلى الأفراد إطاعة الحاكم ما دام قادراً توفير الأمن لهم، والحاكم هنا غير ملزم بنصوص العقد لأنه لم يكن طرفاً فيه. باختصار يكون نظام الحكم استبدادياً والسلطة فيه مطلقة للحاكم.

ورغم نية هوبز البريئة في وضع نظرية لإنشاء دولة قادرة على حماية الأفراد وحقوقهم في ظل حالة الصراع القائمة في زمانه،  فإنه وضع دستوراً مصغراً للدولة الشمولية القادرة على التحكم في حياة الأفراد بداخلها، تحت دعوى الصالح والأمن العام. ولعل أقرب دول وفقاً لفهمنا نظرية هوبز هي جمهورية الصين، دولة تحت حكم الحزب الواحد ولها باع طويل في الحكم الشمولي.

تتعالى بعض الأصوات الآن محتفية بالصين وكيفية تعاملها واحتوائها لفيروس كوفيد-19. ويرجع البعض الفضل إلى نظام الحكم الشمولي فيها الذي يسمح بهامش حرية ضئيل. فقد استطاعت الصين وفقاً لتصريحات رئيسها السيطرة عملياً على تفشي الفيروس، وتمكنت الدولة من تحقيق خطوة أولى نحو استقرار الوضع وتحسنه في عموم البلاد. ويرجع الفضل في تراجع عدد الإصابات بالفيروس إلى الإجراءات والتدابير الصارمة التي اتخذتها السلطات الحاكمة على مدار الأزمة، حيث تم فرض حجر صحي كامل محكم على أكثر من ستين مليون مواطن. ووفقاً للمصادر الصينية تعتبر البلاد نفسها الآن بلداً مستورداً للفيروس بعد أن كانت بؤره انطلاقه بالعالم.

 ورغم أن الأرقام تضعنا على مفترق طرق بين احتفاء عظيم بالنموذج الصيني حيث عدد إصابات ضئيل مقارنة بعدد السكان الذي يقترب من الـ2 مليار، فإن هذه الأرقام والتفاوت بينها وبين الدول المتقدمة، يضع التصريحات الصينية في خانة الشك وتحت طائلة التساؤلات عن مصداقية هذا النظام بأكمله.

تقول الحكمة الصينية: "إذا نظرت إلى الشيء مرة أولى تبين لك جماله، وإذا نظرت إليه مرة ثانية ظهرت لك حقيقته". لنلقي نظرة أخرى.

في الرابع عشر من مارس/آذار، اليوم الذي خفضت فيه الصين عدد الوفيات إلى النصف اتهم موقع "فينانسفيلتماركت" الاقتصادي الألماني السلطات الصينية بالتلاعب في عدد وفيات فيروس كورونا بوقاحة ودون حرج أمام التناقضات الفاضحة. حيث خفضت بكين عدد وفيات الفيروس في اليوم الثالث عشر من نفس الشهر إلى النصف، أي من 216 إلى 108 فقط، بدعوى أنه تم احتساب عدد الموتى مرتين. الموقع أكد أن السبب الحقيقي يعود لرغبة بكين في الحفاظ على نسبة وفيات لا تتجاوز 2.1%، وبالتالي مواصلة إرسال إشارات الاطمئنان للداخل والخارج والإيحاء بأن السلطات تواصل سيطرتها على الفيروس.

نرى هنا أن الحكومة تستأثر بالأرقام والإحصائيات لنفسها دون شفافية، فهي من تتحكم بالمعلومات والأخبار الخاصة بالمرض وطبيعة انتشاره، فإلى الآن لم تكشف دولة الصين عن هوية الإصابة "صفر"، ما يرجح كفه الأصوات التي ترجح أن الفيروس قد هرب من أحد المعامل البيولوجية. وإن أخرجت للعالم المصاب "صفر" فمن حقنا جميعاً الشك والتساؤل عن مصداقية ذلك. 

ويمكننا ملاحظة نقطة مهمة في الوضع الصيني،  السلطة هنا هي من تحدد الصالح العام من وجهة نظرها دون الرجوع إلى الشعب، وتتخذ بناء على رؤيتها وحدها الإجراءات التي إذا أمعنا النظر فيها نجدها تخدم في المقام الأول بقاء السلطة وليس الأمن والصالح العام. فقد كلف تعتيم الصين عن طبيعة الفيروس العالم وليس الصين وحدها الكثير من الأرواح. ففي الأول من يناير/كانون الثاني أخبرت الصين منظمة الصحة العالمية بتسجيل عشر إصابات في ووهان، مؤكدة أن الفيروس لا ينتقل بين البشر، قبل أن تفرض الحجر الصحي على المدينة في 22 من نفس الشهر. تعتيم الصين كلف العالم ثمناً باهظاً من حيث هدر الوقت والتأخر في التصدي للجائحة. بالإضافة إلى الطبيب الذي كان يعمل في مشفى ووهان المركزي، وحذر أصدقاءه من خلال استخدام وسيلة تواصل صينية من وجود فيروس خطير في المشفى. ليتفاجأ بعد أربعة أيام بزيارة مسؤولي مكتب الأمن العام يتهمونه بإخلال جسيم بالنظام العام، عن طريق نشر تعليقات غير صحيحة. لتصبح الحقيقة وتحديد الأمن العام حكراً على الدولة وحدها.
الصين مثل هوبز هنا ترى أن حرية وحقوق بعض الأفراد قد تلحق الضرر بالأمن العام.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إبراهيم
كاتب مصري
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تحميل المزيد