بالرغم من الجائحة التي تسيطر على العالم، لم يُعلَّق الحج هذا العام ويُنتظر أن يبدأ في أواخر يوليو/تموز. ومع أن المملكة العربية السعودية طالبت المسلمين بتأجيل رحلاتهم، إلا إذا علقت الحج، تشكل هذه الشعيرة مخاطر صحية جسيمة.
يؤدي أكثر من مليوني مسلم كل عام فريضة الحج، ويتجمعون لأداء الشعائر في مكة، ويسافرون معاً إلى عدة مواقع في أطرافها، ثم يزورون المدينة المنورة، التي تبعد حوالي 482 كليومتراً، حيث عاش رسول الله بعد الهجرة ودفن فيها.
وفي ظل أن الحج هو خامس أركان الإسلام، بعد التوحيد، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، إذ يُفرض على كل مسلم عاقل قادر على تحمل مشقة الحج جسدياً وقادر على خوض الطريق إليه بأمان، أن يحج مرة واحدة على الأقل في حياته؛ يدخر الحجاج المال عادة ويتأهبون لأعوام قبل الذهاب إلى مكة.
ونظراً إلى أنني كنت مع الحجيج من قبل، أستطيع أن أتذكر مدى مشقة الحج. بدءاً من وصول الحجاج إلى السعودية، ومروراً بالشعائر العديدة التي يؤدونها في الحج، ووصولاً إلى مغادرتهم للعودة إلى أوطانهم، تزدحم الأماكن بملايين الحجاج الذين يتجمعون معاً. ويردد هؤلاء معاً هتاف العبودية لله رب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وبأكبر عدد ممكن من الهتاف.
يأتي التباعد الاجتماعي والعزلة على النقيض تماماً من إيقاع الحج. قيدت التطعيمات الإجبارية، وتحسين الصرف الصحي وأماكن الإقامة في الحج، بدرجة كبيرة انتشار الأمراض المعدية مثل التيفوئيد والكوليرا خلال موسم الحج، ولكن لا يوجد دواء لفيروس كورونا.
وقد أظهرت السلطات السعودية وعياً بشأن الخطر المحدق الذي تشكله الجائحة. في 4 مارس/آذار، ألغت السلطات السعودية رحلات العمرة لمواطنيها. وكان الأجانب محظورين فعلياً من زيارة السعودية لأداء العمرة.
تحتاج السعودية أن تعلن فوراً تعليق الحج بسبب فيروس كورونا. إذ إن مثل هذا الإعلان سوف يؤكد للمسلمين في كل مكان على أولوية الأمان في أخلاقيات الإسلام، وسوف يساعد على تقييد التجمعات الدينية خلال الجائحة.
يعد تعليق الحج مسألة حساسة وتتطلب إجماع العلماء والقادة السياسيين. وقد أحزنت بالفعل صور المسجد الحرام في مكة ومسجد رسول الله في المدينة المنورة وهما يخلوان من المصلين، المسلمين المتدينين حزناً شديداً. ترددت السعودية في اتخاذ قرار بتعليق الحج، خوفاً من ردة الفعل العنيفة.
فقد تعرضت سمعة المملكة لضربة عنيفة في العالم الإسلامي الأوسع خلال الأعوام السابقة، مع الصعود المضطرب لولي العهد محمد بن سلمان، والحرب الكارثية التي تخوضها في اليمن، والاغتيال الوحشي الذي تعرض له الصحفي السعودي جمال خاشقجي. ومن هنا جاءت ضرورة توخي الحذر.
لكن تعليق الحج هو نداء يجب أن يطالب به السعوديون والزعماء الدينيون؛ نظراً إلى أن الالتزام بأداء فريضة الحج يُرفع خلال الحروب والأوبئة والخطر الشديد. وقد ورد في القرآن الكريم في سورة البقرة: "وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ". إضافة إلى أن نبي الله محمد (صلى الله عليه وسلم) علّم المسلمين أن المرء يجب عليه تجنب عدوى الآخرين خلال الأوبئة.
وبينما أظهرت لقطات الفيديو حفنة من المصلين في الحرم المكي يؤدون الصلاة تحت إشراف صارم، يمكن للسلطات السعودية أن تسمح كذلك لمجموعة صغيرة من السعوديين بأداء فريضة الحج مع تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي وتزويدهم بمعدات الوقاية.
يقول المؤرخون إنه منذ فرض الحج في الإسلام، عُلقت هذه الفريضة في 40 مناسبة. إذ نتج عن الطاعون الذي وقع في عهد الدولة العثمانية، تعطل الحج عام 1814 بشدة بسبب غياب الحجيج.
أوضح علماء المسلمين أن حفظ النفس خلال الجوائح مقدم على أداء الشعائر الدينية. وأورد الإمام ابن حجر العسقلاني في القرن الخامس عشر في حديثه عن التجمعات الكبيرة للصلاة خلال الجوائح. ففي ديسمبر/كانون الأول 1429، كتب أن الطاعون أسفر عن وفاة 40 شخصاً في القاهرة في يوم واحد.
وبعد شهر واحد، عندما عاد الناس من تجمعات كبيرة أُقيمت في الصحراء للصلاة والصيام توبة لله من أجل أن يرفع الطاعون، ارتفعت معدلات الوفيات لأكثر من 1000 شخص يومياً. وبالمثل، تسبب الفشل في اتخاذ تدابير ضد مرض معد في دمشق قبل قرن من ذلك التاريخ، في عواقب وخيمة، بحسب ما أورده ابن حجر.
فيما جادل ابن رشد الجد (جد الفيلسوف والطبيب والفقيه الشهير ابن رشد) بأن المسلم يحمل إثماً إذا خاطر بخوض رحلة تحفها المخاطر، وهو تحذير شديد إلى أي شخص يتجاهل المخاطر التي تمثلها هذه الجائحة.
وقد أغلق القادة الدينيون العاقلون حول العالم المساجد بالفعل منذ حوالي شهر. ونصح العلماءُ عوامَ المسلمين بأداء صلاة التراويح والتهجد خلال رمضان في المنازل.
سوف يقدم الملك سلمان بن عبدالعزيز، خادم الحرمين الشريفين، الصالح العام العالمي عندما يُبلغ المسلمين حول العالم بتعليق الحج. ويمكن أن تساعد المشاورات بين المملكة وبين المفتين والمشايخ في الدول الإسلامية من أجل بناء إجماع على الحاجة لتعليق فريضة الحج هذا العام.
إضافة إلى أن اتخاذ قرار مبكر سوف ينقذ كثيراً من الأرواح من خلال التوضيح بشكل قاطع أن التجمعات الدينية في أي مكان خلال هذه الأزمة يمكن أن يكون خطيراً.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.