"لا تسَل عن سلامته.. روحه فوق راحته.. بدَّلَته همومُه.. كفناً من وسادته"، بهذه الكلمات كان يبدأ مسلسل الصغر المفضل، تجتمع الأسرة أمام التلفاز، وتستعد الأم لتأهيل عيونها للبكاء، ويتابع أبي في زهوٍ وإعجابٍ بحوار المسلسل وموسيقاه وحبكته، ويتابعنا في حرص على المراقبة، مراقبة شيء يكبر في دواخلنا، وشعور ينمو يوماً بعد يوم، فنحمل ثأراً لا ينطفئ إلى الأبد، ولمدة ساعة نسكن جميعاً دون حركة، بينما يغلي شيء في صدورنا، ويظل يتحرك، وما زال متحركاً وأنا ابن العشرينات، ولا أظنه سيكف عن الحركة حتى يكف القلب عنها أولاً.
لمدة ساعة لا نكلّ ولا نملّ، نسافر من مشهد إلى مشهد، ومن زمان إلى زمان، فنقاوم مع "أبو صالح" في ثورة الريف الفلسطيني عام 1936، ونغني مع الجدة في ساحة البيت، وندرس مع "علي"، وتأتي النكبة فنجري معهم من دار إلى دار، ومن بيت إلى خيمة، فنحمل الأمتعة الصغيرة مع النساء، ونعود بالمشهد التالي نقاوم مع الرجال، لنشهد "التغريبة الفلسطينية" كاملةً، محملين بمشاعرها الحقيقية، بعيداً عن الدراما المزيفة، والحبكات الضعيفة، ويبقى رد فعلنا بعد المسلسل مثل أغنية الختام؛ "صامتٌ لو تكلما.. لفظَ النار والدما.. قل لمن عاب صمته.. خلق الحزم أبكما.."
كان العبقري د. "وليد سيف"، صانع هذه الأسطورة الفنية؛ مسلسل "التغريبة الفلسطينية" قد سلسلها بأعناق الجميع، أعناق الكبار الذين من الطبيعي أن يشاهدوا ذلك العمل، وأعناق طرية أخرى لم تكن في الحسبان، وهم الصغار أبناء أولئك الكبار، وكنت ضمنهم، الذين نمت القضية في أجوافهم قبل أن ينمو شيء آخر، فكانت هي الأساس وما زالت وستظل.
وكانت تلك بدايتي، لا أقول في حب فلسطين، وإنما في "كره إسرائيل"، لأن فلسطين نحبها منذ معرفة القراءة والكتابة، عرفتُها وأنا أتصفح المصحف وأقرأ "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"، وعرفتها في خريطتها التي بمكتبة أبي، وعرفتها في نشرة الأخبار، وأحببتها لكل تلك الأسباب، أما عن كُره غاصبها فكانت تلك أولى تجاربي في الكره، خصوصاً أن الشعور كان لم يعمل بعد، فالطفل يحب، ويلعب، ويتعلق، ويشتاق، أما أن يكره فكانت تلك هي المسألة.
ومن "التغريبة" إلى "عائد إلى حيفا"، وهو المسلسل المأخوذ من رواية السيد المناضل "غسان كنفاني"، وهنا كانت الكراهية تنمو، الأول كان كره الذي سلب منا الماضي، والثاني صار كره الأمر الواقع، الحقيقة المرة، كيف يسرق الاحتلال كل شيء بلا استثناء، حتى "خلدون"، الرضيع الذي سرقته أسرة ممن يسمونهم حالياً "مستوطنين" على سبيل "الدلع"، لكنهم غاصبون دون شك، وذلك كلام لا يحتمل وجهين.
ومن كره "إسرائيل" عامةً إلى كره سلوك "الاحتلال" بوجه عام، عرفنا "فارس بلا جواد"، بموسيقاه الخالدة، والذي يحكي عن الاحتلال الإنجليزي لمصر، ويروي حوادث شهيرة مثل حادثة دنشواي، وعن التعذيب في سجون الاحتلال، ويسخر من الصهيونية، وكتابها حديث السن وقتها "حكماء بني صهيون"، بالتأكيد أدركتُ هذا حين كبرت، لكن في صغري كان كل ما يعنيني هو "الخواجة" وابن البلد، هو المقاوم والمحتل، هو السوط والصوت، مقابلة المدفع بالحجر، حب أرضي والدفاع عنها، وكراهية محتلّي الذي لا بد من تغذيتها على مر الأيام والسنين.
والمسرحيات كذلك؛ وفي الغالب تكون من بطولة "محمد صبحي"، مثل طريق السلامة 2000، وماما أمريكا، وغيرهما، التي علمتنا "السخرية" من الاحتلال، وقبل الاحتلال، السخرية منا حين نرضى به.
وأتذكر كراسة الرسم، ومشهد الإعدام، لا بد أن في ذلك خطراً ما على نفسية الأطفال، هكذا سيقول خبراء التربية الإيجابية، لكنه كان خطراً في مكانه، أتذكر كيف رسمت الرجل المعدَم بالرصاص، كيف التفَّ الجنود حوله، كيف اصطفوا لتصفيته، كيف كان اغتيال مشاعر "حب الجميع" في قلبي، ليكون "حب الجميع باستثناء البعض"، وكان ذلك البعض هو "إسرائيل" وما يمت لها، أو يتصرف مثلها.
كانت تلك المسلسلات تُعرض بشكل أو بآخر في رمضان، كانت موجودة على "الكمبيوتر"، نستطيع الرجوع إليها دائماً، كانت تعارَض، تُمنع أحياناً، تحتج عليها شبه دولةٍ بحجم إسرائيل، (و"إسرائيل" مجرد كلمة بين قوسين لا دولة بين النيل والفرات)، وتقوم قيامةُ العالم من مجرد مسلسل، وتقوم قيامةٌ في عقولنا نحن الصغار، ونصير جوعى لمثل هذه الأعمال دائماً، حتى إذا نضبت أعدنا التهامها، ويبقى لها دائماً نفس المذاق الأول.
ومن ماضٍ قريبٍ إلى حاضر غريبٍ يحاول -بلا حياء- أن يغرس "إسرائيل" وسطنا، أن يصور لنا الاحتلال رجلاً طيباً، يضحك مثلنا، ويلعب مثلنا، ويعبد الله مثلنا، متجاوزاً النكبة والنكسة، وألف نكبة في مليون بيت، ومليون نكسةٍ في مليار بيت، كأن الاحتلال كان "غلطة"، وقربنا الآن أمر طبيعي يجب علينا التعايش معه، ويسمون تلك النطاعة "السلام"، ويصورون له الحمامة رمزاً، ولا بأس بأن يجعلوا للسلام صورة الحمامة، لكن مع إخبارنا أن ذلك الرجل ذا الضفيرتين، قتل الحمامة نفسها.
نحن في مستنقع، نرتفع فيه مع استنكار "إسرائيل" لمشهد في مسلسل "النهاية" الذي يتنبأ بالعالم بعد مئة عام بدون وجود الاحتلال، ثم نعود إلى مجارينا القذرة مع مسلسل آخر، بطله "يسوي بيزنس مع إسرائيل"، وابنه يلعب عبر الإنترنت مع طفل في الأراضي المحتلة، ويطلق علينا حكمَه وحُكمه، بأن كل شعب فيه الحلو والسيئ، ويضعنا في واقع أن لدينا الآن "شعباً فلسطينياً" و"شعباً إسرائيلياً"، ويقول لنا كذلك إن الفلسطينيين منهم من قاوم الاحتلال نعم، ولكنْ هناك فلسطينيون باعوا أرضهم، وهنا أتخيل المسلسل لا يُعرض على شاشة عربية، وإنما أحرى به أن يُعرض على قناة رسمية بتلفزيون الاحتلال.
قلت لك إننا في مستنقع، تشوّش روائحه على عقول الكبار قبل الصغار، وتخلط الأحداث والمفاهيم، ليَخرج جيلٌ من "المتسامحين"، حسب تعريف "التسامح" في قاموس تل أبيب، أن يحضن الرجلُ مغتصب زوجته، خصوصاً أن زوجته ماتت، وما من سبيلٍ لترقيع غشاء بكارتها، وأن يجهل الطفل الجديد مَن أبوه الحقيقي، ومن المزيف، أن يتعامل مع الكل بمبدأ "الحمامة"، الحمامة الناجية من سربٍ قتلوا جميع أفراده، ويحاولون جعلها رمزاً للعفو.
لستُ بصدد اقتراح مسلسلات أو أفلام أو مسرحيات، ولا بصدد انتقاد وضعٍ درامي ساذج، وإنما بصدد رجاءٍ ونداء، أن تعلموا أطفالكم "كره إسرائيل"، وأن تركزوا أعينهم على الدراما التي تجعل الشيء الذي نبت في صدوركم، ينبت في صدورهم كذلك، لأننا في مأزق يا سيدي، فقد كان "التطبيع" نكتةً "بايخة"، إلى أن صار نكتةً سوداء، ومطلباً ينادي به من يحملون جوازات وبطاقات هُوية مثلنا، لكن إذا قلبتهم ستجد مختوماً على قعورهم "صُنع في إسرائيل".
الفنّ يُنبت في النفوس ما لا يُنبته ألف كتاب، وهو الأقرب من القلوب والأذهان دائماً، فاختاروا منه ما يُربّي في دياركم معاني الحب والحرب كما يقول تاريخنا الجريح، لا "شالوم" كما يقول تاريخهم الجارح، لأننا في زمانٍ قد نفاجأ في مستقبله القريب بأن الصغار إن عرفوا الأقصى، وسألتهم عنه، سيقولون إنه مبنى أثري في "أورشليم".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.