ما إن أُعلِنَت شارةُ السِّباقِ في المضمار الرَّمضاني الفريد هذه السّنة في ظلّ الحجر المنزليّ حتّى بدأ غالبُ المسلمين يضعونَ لأنفسهم برامج الاستثمار الذّاتيّ لشهر الصّيام الذي يأتي هذا العام في عزلةٍ اجتماعيّة.
انصبّت الاهتماماتُ الأساسيّة على العبادات الشَّعائرية؛ فترى النّاس قد أقبلوا على كتاب الله تعالى تسابقاً في الختم والتلاوة والتدبر والتفكّر، واهتمّوا بتفعيل صلوات الجماعة والتراويح الأسريّة.
وفي ظلّ غيابٍ كبيرٍ للعلاقات والعادات الاجتماعيّة من الإفطارات الجماعيّة والتّزاور بين الأصدقاء والأقارب؛ انكفأت العائلات على نفسِها، وانشغلت بذاتِها، وكانت العزلة الاجتماعيّة سبباً رئيسياً في خفوت فاعليّة العبادات السلوكيّة والتّمحور حول العبادات الشّعائريّة بشكل رئيسي.
ولئن كان النّاس أيَّامَ رمضان الاعتياديّ يغفلون في خضمّ انشغالهم بالعبادات الشعائريّة والتقاليد الاجتماعية عن العبادات السلوكيّة الاجتماعيّة، التي شرعها الإسلام وجاءت ثمرةً للعبادات الشعائرية، فهم في رمضان هذا أشدّ غفلةً وأبعد نجعة، رغم أنّ الصّيام هو مولّدٌ أساسيّ لهذه العبادات السلوكيّة التّعامليّة.
وقد بيّن لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ضرباً من هذه العبادات السلوكيّة الاجتماعيّة التي يثمرها الصّيام، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِماً؟ قَالَ أَبُوبَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا؛ قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُوبَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا؛ قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِيناً؟ قَالَ أَبُوبَكْرٍ: أَنَا؛ قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضاً؟ قَالَ أَبُوبَكْرٍ: أَنَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وعندَ الطَّبراني في الكبير: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَعْلَى بِهِ الضَّحِكُ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا جَمَعَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إِلا مُؤْمِنٌ، وَإِلا دَخَلَ بِهِنَّ الْجَنَّةَ.
فهذا الحديثُ يبيّن أنَّ النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم سأل عن عبادةٍ شعائريّة واحدة وهي الصّيام؛ بينما سأل عن ثلاثِ عبادات سلوكية اجتماعية هيَ اتّباع الجنائز وعيادة المريض وإطعام المساكين، ويوحي ترتيب هذه العبادات بعدَ ذكر الصّيام أنها جاءت ثمرةً له، وأنّه محرّضٌ على فعلها، مؤثِّرٌ في تنفيذها.
كما أنَّ هذه العبادات الثَّلاث التي تقوم على العلاقات مع الناس في المجتمع؛ يربطها رابطٌ مهمّ وهو أنَّ جوهَرها جبرُ خاطرٍ مكسور، فكلُّنا يعلمُ مدى جبر الخاطر الذي يصيبُ الإنسان عند مواساته بفَقدِ حبيبٍ وقريب، أو تَفقُّدِه وقد أقعدَه المرض، أو إطعامِه عندما تضيق به الدُّنيا وتلزمه الحاجة.
بل إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فرَّق بينَ العبادات الاجتماعية التي تقومُ في كثيرٍ منها على جبر الخاطرِ وبين العاداتِ الاجتماعية التي تقومُ على المجاملات المؤدية إلى وضع الأمور في غير نصابها؛ مما يثمرُ اختلالاً في القيَم وتقَهقُراً في فضائلِ المجتمع.
فَنَرى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلّم يذمُّ إطعام الطَّعام القائم على المجاملات، بل يسمِّيه شرَّاً، وفي ذلك يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم في الحديث المتّفق عليه: "شرّ الطعام طعامُ الوليمة، يُدعى إليها الأغنياءُ ويُترك الفقراء"، وفي رواية مسلم: "شرُّ الطّعام طعام الوليمة، يُمنَعها من يأتِيها ويُدعى إليها من يأباه".
بينما يمتَدِحُ الله تعالى في عبادِه الأبرار صفةَ إطعامِ الطَّعامِ مُقتَرِنةً بالفئةِ المُستهدفةِ من هذا الإطعام بقوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) الإنسان: 8.
ولا نحتاجُ إلى كثيرِ تأمّل لنجدَ أنَّ الجامعَ في الأثرِ المترتِّب على إطعام كلٍّ منَ المسكين واليتيم والأسير والتواصل معهم إنَّما هوَ احتياجُهم لِمن يجبرُ خاطِرَهم ويمسَحُ بِحُنُوّه جراحاً غائرةً في أعماقِ النّفس.
ومن هنا كانَ الأجدرُ بالصّائم الحريصِ على الارتقاءِ الحقيقيّ في معارجِ الإيمانِ والتَّزكيةِ والسموّ؛ أن يُدرج في برنامجه الرّمضانيّ اليوميّ تنفيذَ عددٍ من العباداتِ السّلوكيَّة الاجتماعيَّةِ التي تثمرُ جبرَ الخاطر؛ لا سيما في أوقات الحجر المنزلي القاسية على كثيرين، كما كان سلوك أبي بكر رضي الله عنه، إذ حرصَ في اليومِ الذي أصبحَ فيه صائماً على عيادةِ مريضٍ ومواساةِ مسلمٍ باتّباعِ جنازةٍ وإطعامِ مسكين، وقد تناقلَ أهل العلم قديماً وحديثاً عبارةً أكثَروا من تردَادها للتَّأكيد على هذا المعنى حتى ظنَّها بعضُ النَّاس حديثاً نبوياً وهيَ قولُهم: ما عُبد الله تعالى في الأرض بمثلِ جبرِ الخاطر.
ولو التفَتَ الإنسان قليلاً حوله لرأى المجتمع في زمن وباء كورونا يزخرُ بمكسوري الخاطر الذين ينتظرون مسحةَ حنانٍ أو ابتسامةً صادقةً ولو عبر الأثير أو كلمةً طيبةً ولو عبر سمّاعة الهاتف؛ ترسم معنى الأخوّة الحقيقية وتعبِّر عن صدق الإنسان في عباداته الشّعائرية المتنوّعة.
فكم من مريضٍ وجريحٍ أقعدته آلامه وجراحه عن زحمةِ الحياةِ ينتظرُ من يتذكّر وحدته ويتواصل معه ويُبَلسم جراحاته وآلامه!
وكم من لاجئٍ مُهَجَّرٍ يتشوَّق إلى من يواسيه في غربتِه ويؤنسُه في وحدته!
وكم من يتيمٍ أو ابن شهيدٍ أو ابن أسيرٍ يتوقُ إلى يدٍ حانيةٍ تُدخلُ السّرور إلى قلبه فهو لا يحتاجُ فقط إلى بعض المال يدسُّه محسنٌ في جيبِه ثمَّ يُدير ظهرَه ويمضي وَقد ظنَّ أنه فعل البرَّ كلّه!
ولو فتَّش المرءُ عن العباداتِ السلوكيَّة الاجتماعيّة التي تجبرُ الخاطرَ الكسيرَ؛ لوجد نفسه أمام بحرٍ لا ساحلَ له من الأعمالِ التي دعا إليها الإسلام ليبنيَ المسلم الرَّاقي في تعامله الإنساني.
فكم سيكون جابراً لخاطرِهم لو أنّك جعلت في برنامجك اليوميّ وأنت في الحجر المنزليّ أن تتصل هاتفياً باثنين من المرضى واثنين من المكلومين لفقد قريبٍ أو عزيز وواسيتهم بكلمات طيّبة؟!
وكم سيجبر خاطرهم لو أنّك صنعت في كلّ أسبوعٍ وجبةَ إفطار لعائلةٍ محتاجة واتصلت بهم تطلب منهم ألّا يصنعوا إفطارهم في يومهم ذاك وأوصلت لهم إفطارهم إلى باب منزلهم قبيل المغرب وانصرفتَ راشداً؟!
وكم سيكون جابراً لخاطرهم لو أنّك اتصلت بشباب غرباء بعيدين عن أهليهم يسكنون وحدهم في مدينة مترامية ودعوتَهم إلى الإفطار، لكن في منزلهم لضرورات الحجر؛ بحيث يأتي أحدهم ويأخذ إفطارهم من بيتك، فيشعرون أنّ هناك من يتذكّر غربتهم في زحام الحياة والعزلة؟!
وكم سيكون جابراً لخواطرِهم لو أنّك اتّصلت كلّ يومٍ ببعضِ من تعطّلت أعمالَهم فسألتَهم عن أحوالِهم وظروفِهم وأبديت لهم شعورك بهم إن لم تستطع إسعافهم بالعون الماديّ، وكما قال المُتنبّي:
لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ
فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ
فما أكثر الخواطر المكسورة، وما أعظم الآلام المتدفّقة من القلوب، وما أحوجَنا ونحن في الحجر المنزليّ إلى تحسُّسِ أصحابِ الخواطر الكسيرة والسّعي إلى جبرها تقرُّباً إلى الله تعالى في هذا الوقت الذي يكون فيه أنين المكسورين محجوباً بالأبواب المقفلة والجدران الثّقيلة، فإنّ من منّة الله عليك أنّه فتح لك وأنت في حجرك المنزليّ كوّةً إلى خواطر خلقه لتجبرها، فلعلّها تكون مشكاةً يتدفّق منها جبر الله تعالى لخاطرك؛ ومَنْ أحسنُ منَ اللهِ جابراً؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.