في زاوية من البيت على السفرة يتجمع الأولاد، يتعاركون على مقاعدهم، ويختار كل منهم مكانه بعناية، مَن يجلس مقابل التلفاز ليشاهده دون أن يلوي جسمه، ومن يجلس بجوار أبيه، ومن يحب الجلوس بجوار أمه، ومَن يكون غير مبالٍ بذلك إطلاقاً، مولِّياً ظهره للتلفاز، ومعطياً وجهه إلى كل الملتفّين حول السفرة العامرة، ومستعداً لتزويدهم بالطعام في أي وقت، في الغالب تكون الأم هي ذلك الفدائي.
يُعد الصغار أكواب التمر، تترك لهم "الشفشق" والأكواب، ويتعاونون لصبّ حبات التمر مع الماء المسكّر، لكن في الغالب سينكفئ الشفشق، ويثور الأب، وتكظم الأم غيظَها، محاوِلةً استعادة الأمن في البيت، المتوتر قبل الأذان بخمس دقائق، وتقول "حصل خير، استهدوا بالله إحنا أول يوم رمضان"، ويهدأ الجميع، ويكون الفائز من الهدنة هم الصغار، الذين لولا تدخل الأم في وقتٍ قاتل لنالوا ما لا يُحمد عقباه في أيام مفترجة.
السحور الأول كذلك يكون له طقوسه، إذ يسهر الجميع حتى موعد الطعام، عدا واحدٍ ربما سينام قبل السحور بخمس دقائق، ولن يستيقظ ولو "بالطبل البلدي"، وتحضّر الأم الفول المدمس والبيض المقلي، ويبدو الفول في الثانية صباحاً اقتراحاً غير مجدٍ مع الأولاد، لكنها فرصة الأب لأن يحدثهم عن أفضال الفول، وكرامات الذين يأكلونه، وأنه بالتأكيد "مسمار البطن"، ويتساءل الأولاد عن سبب التسمية باستظراف، فينهرهم الأب ويقول لهم إنه مسمار البطن، لأنه يثبت فيه، وثبات الطعام في البطن هو ضالة الصائم، ولذا سيأكلون الفول آملين أن يصدق حديث الأب.
في أيام كتلك سيكون "كورونا" جزءاً من الحديث الجاري على المائدة، مع غياب العزومات في أول يومٍ جزئياً، أو تأثرها على كل حال، بين من يخاطر في سبيل الطقوس الرمضانية، وبين من يتبع التعليمات والإجراءات ليضمن أنه لن يكون رمضان الأخير بسبب إهماله.
في زاويةٍ من بيتٍ آخر، في بلدٍ بعيد يقوم الفتى من نومه أو من يقظته، يسلق بيضتين، ويسخن خبزاً لا يشبه الخبز البلدي من قريب أو بعيد، ويخرج الجبن واللانشون ربما، ويكون سحوره بيضتين و"ساندويتش" مستعجلاً وكوب ماءٍ. سيتجنب الرد على اتصال الأهل في ذلك الوقت، سيذهب إلى سجادته، ويصلي ركعتين يدعو فيهما دعاء آخر خمسة رمضانات، أن يكون رمضان القادم بين أهله، ويحاول ألا يفكر لماذا لم يستجب الله له كل هذه المرات السابقة؟ سيستغفر ويشرب شربة ماءٍ ويؤذن الفجر، ويقول المؤذن "صلوا في رحالكم" لتكتمل الغربة على الولد في الأيام المباركة.
السفرة في الطبيعي تسع أكثر من واحد، فكرتها بالأساس تقوم على أرجل متعددة، على كراسي ملتفّة حولها، على أن يكون في كل ضلع أو نقطة من السفرة شخصٌ ما، تربطه علاقة ود بالذي يشاركه الطعام في بيته، ويكون سر حلاوة الطعام هو مشاركته، وحلاوة ونفَس صانعه، وحلاوة مذاقه عند آكله، فمَن الذي اخترع الفكرة الشاذة بأن يجلس على السفرة شخص واحد، يصنع الطعام وحده ويأكله وحده؟
ولظروف العزل في الغربة لن يتجمع الأشتات، ولن يبحث المغتربون عن وطنٍ في بيتِ أحدهم يفطرون فيه معاً أول أيام الشهر المبارك، ولن يذهب بعضهم إلى الشوارع باحثاً عن مائدة يتشارك فيها الناس الطعام، أعرف أناساً يبحثون أول يومٍ عن موائد الرحمن، وهي مختلفة في الغربة عن بلادنا، يبحثون عنها ويذهبون إليها، ليس من فقرٍ أو حاجةٍ إلى المال أو القوت، وإنما لفقرٍ إلى "اللَّمة"، وحاجة إلى الدفء والمشاركة في موسم السفرة والضجيج.
في الغربة، وخصوصاً في موسم كهذا، صوت الملاعق يبدو لنا كأنك تسمع "حاجة من الزمن الجميل"، كالذين يطربون لسماع المنشاوي في "البقرة" أو عبدالباسط في "الضحى"، وإذا انتقلنا من حيٍّ إلى حيٍّ لنتشارك سفرةً في بيت أحدنا نكون كالذي جاء يقول لأم كلثوم "دانا جايلك من طنطا"، وتبدو البديهيات من رابع المستحيلات، وذلك لأننا في ظرف استثنائي من وراء "كورونا"، فوق ظرفنا الاستثنائي من وراء الغربة، وهجر بلادنا رغم أنوفنا، مَن جاء للعلم أو مَن جاء للعمل، أو من جاء لا يعلم ما العمل!
من زاويةٍ أخرى يجد البعضُ ذلك العام فرصةً لم تُتح ربما للمسلمين من قبل، لم يجبَروا على مفارقة المساجد في موسم السجود، لم يضطروا إلى الصلاة في البيت في موسم الاعتكاف خارج البيت، لم يدفَعوا -بحكم الشرع- إلى الصلاة فرادى، أو في جماعات صغيرة ببيوتهم، فبدت الأمور الصعبة فرصةً لأصحاب القلوب الرقيقة، الذين يجدون في المغارم مغانم، ويرون في الصلاة بانفراد مساحةً كبيرةً للإطالة في المشاعر المقدسة، للمكوث في السجود حتى تشيط جباههم، للإلحاح والتكرار في الدعاء حتى تفنى جعبتهم منه، للبكاء حتى يمتلئ البيت بصوت النشيج دون حرَج من أحد، وكثيراً ما يكتم المرءُ بكاءه في الدعاء والتراويح، خشيةَ إفساد الأمر على أصدقائه في الصفّ.
لكنهم يقولون إنها فرصة لتلك الأسباب، ليكون الاعتكاف في البيت، وليكون خارج حدود البيت والجدران والجيران، يكون في جزء من السماء مختصرٍ في بقعة من الأرض، ويكون الشهر كله معتكَفاً، ويكون البيتُ كله معتكَفاً، ويكون الشهر الكريم كريماً أكثر من عادته، يترك لنا مساحةً كافيةً لأول مرة لنعبر له عن إحساسنا تجاهه بوضوح، ودون موعد، ودون مواقيت لإغلاق باب الجامع.
صحيحٌ أن الأمر صعب، أننا حتى لم نتطرق إلى ما نفتقده في رمضان هذا العام في ذلك المقال، لكنك تعلمه، وأنا أعلمه، ولو فكرنا فيه لبكى كلانا، ولأغرقنا المقال وأغلقناه، وأنفقنا مداد عيوننا بلا هوادة، ونحن في الأصل لا نبكي رمضان حزيناً في حلته الجديدة، بقدر ما نبكي كل الرمضانات التي مضت دون أن نلتفت إليها، ولم نكن نتخيل يوماً نُحرَم فيه من الطقوس التي فرّطنا في الاعتناء بها جيداً.
لكن الأبقى هو نحن، لا الطقوس الجماعية بالشهر الكريم ومحافل استقباله، الباقي هو المرء الذي بداخلنا، يشعر بالغربة من حوله لكنه يشعر بالأنس مع الله، يشعر بالوحدة في نفسه لكنه يشعر بالقرب من الله، يشعر بالهوان في ذاته، ويشعر بالضعف إلى الله، ويشعر بالتناقض، حين يجد نفسه محاطاً بين غربات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، لكن عزاءه في الظرف الصعب أنه يرى الله بوضوح.
ومن جديد، على أملٍ أن أعتذر عن مقال رمضان القادم، لأنني سأكون فيه مع أهلي مشغولاً بإعداد السَّلَطة أو صب أكواب التمر، أناقش أبي و"أناغش" أمي، وأستقبل الضيوف المدعوّين إلى إفطار أول يومٍ معاً، بلا تباعد اجتماعي، ولا غربة انطوائية، ويكون الزملاء بالمنصة العزيزة كذلك في إجازةٍ استثنائية لأول أيام رمضان، لأنه سيكون أول رمضانٍ لهم مع أهلهم منذ زمن طويل، ونتبادل صور الموائد العامرة بدلاً من الملفات الحزينة، ونكتب بعدها مقالاً مختلفاً، نحكي فيه عن شعور أول يوم رمضان بعد غياب سنوات طويلة، وسنختار عنوانه مثلاً: "لأول مرة منذ سبعة أعوام.. رمضان جانا".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.