نفط أمريكا المجاني وخريطة جديدة للنظام العالمي

عدد القراءات
3,090
تم النشر: 2020/04/22 الساعة 16:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/22 الساعة 16:59 بتوقيت غرينتش

العالم بعد يوم الإثنين 20 أبريل/نيسان 2020، ليس هو العالم قبل هذا اليوم الذي شهد أكبر كارثة مالية عرفتها شركات النفط والطاقة الأمريكية، ففي مساء الإثنين تهاوت أسعار النفط الأمريكي لمستويات قياسية، وتحولت أسعار العقود الآجلة للنفط الأمريكي إلى سلبية للمرة الأولى في التاريخ، لتنهي جلسة ذلك اليوم عند سالب 37.63 دولار للبرميل مع حالة ذعر شديدة عرفتها الأسواق، وإقبال المتعاملين على البيع بكثافة تحت ضغط الخسائر.

هذا التهاوي المفاجئ والمثير لسعر النفط الأمريكي حتى لصانع القرار بواشنطن لا يرجع لأسباب تتعلق بالحرب النفطية التي كانت مشتعلة قبل أيام بين السعودية وروسيا، حيث وضع الرئيس دونالد ترامب حداً لها، ولكن لأسباب أخرى تتعلق بتهاوي الطلب العالمي على النفط والمشتقات البترولية، بسبب استمرار تفشي كورونا، وتوقُّف الحياة الاقتصادية والإنتاج الصناعي وحركة السيارات والطائرات والسفر ومحطات الوقود حول العالم، ومن ضمنها الاقتصاديات الكبرى، إضافة إلى زيادة المخزونات النفطية، وامتلاء منشآت التخزين العالمية الكبرى بالنفط الرخيص الذي هوى سعره بنسبة 70% في الربع الأول من العام الجاري، إضافة إلى ضخامة حجم مخزونات النفط العائمة على متن الناقلات في البحار والمحيطات والباحثة عن مشترين والبالغة 160 مليون برميل.

ومع هذا التهاوي في أسواق النفط والذي قاد إلى بيع النفط الأمريكي بالمجان، تكون خريطة جديدة بدأ العالم في رسمها لقطاعي النفط والطاقة وضمن ذلك القطاعان الأمريكيان، وربما تمتد الخريطة إلى النظام العالمي كاملة والذي سيعاد تشكيله عقب انتهاء أزمة كورونا.

خريطة قد تشهد انهيار أنظمة واقتصاديات كبرى وإفلاس دول وشركات نفطية ومالية واقتصادية كبرى، وظهور رجال أعمال ومليارديرات جدد. خريطة قد تكون أشمل وأعنف من التغييرات التي شهدها العالم في بداية تسعينيات القرن الماضي وأعقبها سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة.

ترامب قائد صناعة النفط

قبل الإثنين الأسود كان دونالد ترامب هو الذي يقود صناعة القرار النفطي في العالم، فهو الذي يأمر السعودية ودول الخليج بزيادة الإنتاج النفطي وتعويض النقص الحاصل بسبب فرض عقوبات كاملة على النفط الإيراني ومنع تصديره، وهو الذي يهدد منظمة أوبك ويتهمها بالاحتكار، وهو الذي يأمر السعودية في فترة ما بإغراق الأسواق بالنفط الرخيص حتى يهز أركان روسيا واقتصادها وعملتها التي تعتمد على النفط في الإيرادات العامة.

وترامب قبل 20 أبريل/نيسان، كان هو المهندس الحقيقي لصفقة "أوبك+" الأخيرة التي أسفرت عن اتخاذ قرار تاريخي من قِبل الدول النفطية الكبرى بخفض الإنتاج النفطي بكميات تبلغ 20 مليون برميل يومياً، بهدف وقف التهاوي ورفع أسعار النفط إلى حاجز خمسين دولاراً، وهو ما يصب في صالح شركات النفط الصخري الأمريكي، أحد الممولين الرئيسيين لحملة ترامب الانتخابية.

كما لعب ترامب الدور الأكبر في إنهاء الحرب النفطية الشرسة بين السعودية وروسيا والتي اندلعت قبل نحو 50 يوماً وأدت إلى فقدان أسعار النفط أكثر من 40% من قيمتها خلال شهر مارس/آذار الماضي، وهو الذي قارب بين وجهات النظر المختلفة لكل من الأمير محمد بن سلمان وفلاديمير بوتين وغيرهما من قادة الدول النفطية، خاصة حول النسب والكميات التي تتحملها كل دولة في خفض الإنتاج القياسي للنفط.

وما إن نجح اجتماع "أوبك+" الأخير حتى خرج ترامب معلناً نجاحه في إبرام الصفقة التاريخية وتسوية الخلافات بين موسكو والرياض، وهي الصفقة التي ضغطت شركات النفط الصخري الأمريكية لإتمامها، حتى لا تتعرض لمخاطر الانهيار والإفلاس في حال بقاء الأسعار دون مستوىً أقل من 30 دولاراً للبرميل، وهو رقم لا يغطي حتى تكلفة الاستخراج، فماذا عن تكلفة التنقيب والشحن والتخزين والأرباح.

إفلاس شركات النفط الصخري

لكن بعد الإثنين الأسود استيقظ العالم على انهيارات في أسعار النفط الأمريكي، ربما لم تحدث بهذا الشكل من قبل، ومع الانهيارات تلك انهارت أحلام ترامب ومعه قطاع الطاقة المموِّل الرئيسي لحملة ترامب الانتخابية، في البقاء والصمود وتحقيق أرباح ضخمة بمليارات الدولارات؛ ومن ثم عاد سيناريو إفلاس شركات النفط الصخري الأمريكية مطروحاً، وأدى تهاوي النفط الأمريكي إلى إحباط خطط ترامب في الاكتفاء الذاتي من النفط والاستغناء عن النفط المستورد سواء من السعودية ومنطقة الخليج أو من كندا والمكسيك وغيرهما. وربما يهدد تهاوي أسعار النفط الأمريكي مستقبل ترامب السياسي، فقد فشل في حماية قطاع النفط والطاقة، وفشل كذلك في حماية الاقتصاد الأمريكي من الوقوع في فخ الكساد، بسبب الخسائر الضخمة الناتجة عن تكلفة فيروس كورونا الصحية والاقتصادية.

حتى مؤشرات "وول ستريت" وأسواق المال والبورصات التي كان ترامب يتفاخر بها منذ تسلمه السلطة في بداية عام 2017، فشل في وقف تهاويها، أو وقف نزيف الخسائر الذي يتعرض له كبار المستثمرين ورجال الأعمال في الولايات المتحدة. حتى فرص العمل التي وفرها ترامب للأمريكان والتي كانت الأعلى في نصف قرن، فقد تبخرت عقب تفشي كورونا، حيث قفز عدد المتقدمين للحصول على إعانة بطالة لأكثر من 20 مليون مواطن أمريكي.

وفي حال سقوط ترامب وعدم فوزه بولاية ثانية لأسباب اقتصادية في الأساس، فإن هناك تغييرات سياسية واقتصادية سيشهدها العالم، خاصة في أوروبا ودول الخليج والمنطقة العربية والصين، فتهاوي أسعار النفط وخسائر كورونا التي تقدَّر بنحو 9 تريليونات دولار في العامين المقبلين، سيكونان النقطة الفاصلة في التغييرات الجيوسياسية المقبلة.

مستقبل غامض لدول الخليج

على مستوى تداعيات تهاوي أسعار النفط الأخيرة على منطقة الخليج، فإن دوله ستشهد تسارعاً في موجة الاقتراض الخارجي مع استنزاف جزء من احتياطي النقد الأجنبي، وحسب تقديرات مؤسسة فيتش العالمية للتصنيف الائتماني، فإنها تتوقع لجوء دول الخليج إلى سحب 110 مليارات دولار من الاحتياطي الخارجي.

ومع استمرار تهاوي أسعار النفط فإن دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، أكبر مُصدِّر للنفط بالعالم، ستعاني عجزاً مستمراً ومتزايداً بالموازنة العامة، وتراجعاً في معدلات النمو الاقتصادي وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو ما يدفعها إلى اللجوء للاقتراض الداخلي والخارجي كما حدث في الأسابيع الأخيرة، خاصة من قِبل الرياض ودبي.

ومع التطورات الأخيرة المتعلقة بأسواق النفط فإن دول الخليج ستكون هنا مدفوعة نحو تقليص الإنفاق العسكري، وإعادة النظر في فاتورة حرب اليمن التي استنزفت مليارات الدولارات منذ اندلاعها في مارس/آذار 2015، وربما ستتوقف أنظمة خليجية عن تمويل الثورات المضادة في بعض الدول العربية والتي باتت مكلفةً مادياً، واللجوء إلى التقشف وربما فرض الضرائب وتطبيق برنامج الخصخصة وبيع الشركات الحكومية، وزيادة أسعار سلع رئيسية، منها الوقود، وخفض الدعم الحكومي.

ومن المتوقع أن تبدأ بعض دول الخليج كذلك عمليات خفض في الرواتب و"تفنيشات" وإنهاء عقود لمئات الآلاف من العمالة الوافدة؛ حفاظاً على النقد الأجنبي الذي تستنزفه هذه العمالة والبالغ نحو 120 مليار دولار سنوياً، وهو مبلغ يساوي احتياطيات أكثر من نصف الدول العربية.

ومن شأن استمرار تهاوي أسعار النفط أن يؤدي كذلك إلى حدوث أزمة سيولة كبرى وضغوط شديدة على العملات والموازنات العربية المعتمدة على النفط، خاصةً الريال السعودي، لا سيما إذا صحَّت توقعات مصرف "سيتي بنك" الأمريكي بانهيار أسعار خام برنت إلى 17 دولاراً، خاصةً أن ميزانية السعودية مثلاً تحتاج إلى سعر نفط يبلغ نحو 91 دولاراً للبرميل لتحقيق نقطة التوازن المالي، فما بالنا لو استمر السعر بأقل من 30 دولاراً وربما أقل من 20 دولاراً لسنوات حسب توقعات بنوك استثمار عالمية كبرى؟.

انهيارات أسواق النفط العالمية باتت تهدد اقتصاديات دول كبرى ومعها كثير من الأنظمة السياسية، وهذا سينعكس على الدول المصدّرة للنفط التي ستفقد الجانب الأكبر من إيراداتها العامة وقوتها المالية، وكذا على الدول المستوردة للنفط التي ستعاني تراجعاً في تحويلات العاملين بالخارج والاستثمارات الأجنبية المباشرة في المشروعات الإنتاجية وغير المباشرة كالأموال الساخنة، وبالطبع ستتراجع المساعدات التي تتلقاها من الدول النفطية، وربما تتوقف.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى عبد السلام
كاتب متخصص في الشأن الاقتصادي
تحميل المزيد