قبل أربع سنوات طرحت إحدى شركات الإنتاج المصرية برومو لمسلسل يطرح سيرة المفكر الذائع الصيت مصطفى محمود وأسند دوره للفنان خالد النبوي الذي أطل في مشهد بدقائق معدودة كان عبارة عن محاكاة للبرنامج الشهير "العلم والإيمان" الذي كان يقدمه محمود سهرة كل إثنين على الساعة التاسعة وظلت تفاصيله محفورة في ذاكرة المشاهدين ابتداء من مقدمة الناي الحزينة إلى المقدمة التاريخية المختصرة في "أهلاً بيكم" بصوته الذي لا ينسى، مع العلم أن هذا البرنامج بلغت حلقاته 400 وحين وافق عليه التلفزيون المصري كان قد عرض على صاحبه مبلغ 30 جنيهاً فقط للحلقة ليتدخل حينها أحد رجال الأعمال وينتجه على نفقته الخاصة قبل أن يصدر قراراً من الرئاسة المصرية إلى وزير الإعلام آنذاك صفوت الشريف بإيقافه كما سبق وصرح نجل الفيلسوف والطبيب المعروف أدهم مصطفى محمود.
لسنا هنا بصدد إعادة سرد سيرة هذه الشخصية التي يعرفها القاصي والداني، لكننا سنتوقف عند ما صرح به كاتب المسلسل وليد يوسف، حين كشف أن "منتج العمل يحتاج شراكة الدولة لضخامة العمل الإنتاجية، إذ يتضمن 157 شخصية وديكورات وسفريات للخارج، حيث إن صاحب العلم والإيمان كان يسافر للمشاركة في مؤتمرات عالمية"، مضيفاً أن المسلسل يتحدث عن أغلب "عباقرة مصر منذ أربعينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وفي مجالات مختلفة من الفن والأدب والسياسة على غرار "أم كلثوم وصلاح جاهين وعبدالحليم حافظ وأنيس منصور وأسامة الباز وإحسان عبدالقدوس وآخرين".
هذه "المناشدات" وحتى لغة "التوسل" لم ولن تجدي نفعاً في ظل النظام الحالي بالمحروسة الذي يُحكم قبضته على أغلب شركات الإنتاج، والدليل يمكن استخلاصه في كل موسم درامي رمضاني والخطوط الرئيسية التي تسير عليها كل المسلسلات من "تمجيد" لدور رجال المخابرات و"فروسية" و "بطولة" رجال الأمن وكل هذا يصرح به علنية عبر القنوات المصرية والكل يتذكر وثائق التعليمات الصادرة في العام الماضي والتي تتضمن خطوطاً حمراء لا ينبغي تجاوزها وكل من يُشهر عصيانه يبعد سيكتفي بالمتابعة من منزله كأي مشاهد عادي.
لكن المثير للانتباه في هذا المسلسل الذي لم يبصر النور -أو بالأحرى لن يبصرها على المدى المنظور- هو أن البرومو التشويقي حين تم طرحه حصد نسب مشاهدة عالية جداً، والكثير من المتابعين أبدوا حماسهم لمشاهدة العمل كاملاً على الشاشة رغم أن البعض أبدى "توجسه" من "تشويه" سيرة الدكتور مصطفى محمود، كما دأب صناع بعض الأعمال أن يفعلوا مع شخصيات لها مكانتها في المجتمع، وهنا نتساءل: أليست مثل هذه الشخصية أولى وأجدر بأن تلتفت إليها الشركات المحتكرة للفضاء والهواء في مصر اليوم؟ ولماذا تغيب مثل هذه الأسماء التي تركت بصمات جلية بالمجتمع مقابل الاهتمام وصرف الميزانيات الضخمة على مسلسلات تافهة فارغة المضمون تقدم صوراً سلبية عن المجتمع المصري وتلمع "البلطجية" والمجرمين؟
وقبل أن نختم لا بد أن ننوه "بالحفاوة البالغة" التي يلقاها مسلسل "الاختيار" من بطولة أمير كرارة عن سيرة قائد الكتيبة 103 سلاح الصاعقة "أحمد صابر المنسي" حيث يبدو الجميع على أهبة الاستعداد للتهليل له ولبطولاته في هذا الشهر الفضيل، وهذا النموذج لوحده كفيل بأن يسرب اليأس للمشرفين على سيرة الدكتور مصطفى محمود، لأن الواقع الحالي يقول لا مكان للعلماء والأدباء، فنحن في زمن الجيش والمخابرات ومن يدورُ في فلكهم والباقي مجرد "كومبارس".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.