رسائل المرأة الإنجليزية التي عشقت المصريين حتى سمَّوها “الشيخة”

عدد القراءات
3,730
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/20 الساعة 10:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/20 الساعة 11:01 بتوقيت غرينتش
المترجمة الإنجليزية ليدي دوف جوردون

من الصعب أن تفارق هذا الكتاب دونما حسرات، حسرة لأنك تفارق إنسانة لا بد أن تحبها، حتى لو اختلفت معها  في بعض المواقف، وحسرة على فراق المشاعر الثرية التي كانت تحتوي بها الحياة من حولها، فإنه قد يصعب أن تجد مثلها في إنسان آخر. حسرة على الناس الطيبين الذين يتفجر الحب والعطف من قلوبهم إن عزف أحد برقة على مشاعرهم. 

كما لا يسع قلبك ألا يحترق وأنت ترى الناس يساقون عبيداً سخرة لكي يحفروا قناة السويس، بعضهم لا يعود، وهم بالآلاف، ثم مَن يملك ألا يذرف الدمع على الناس الذين يأخذون اللقمة من أطفالهم ليدفعوا ضريبة باهظة للباشا الذي يبني القاهرة لتتحول إلى قطعة من أوروبا، وكل حجر في قصوره مقابله كان يوماً رضيعاً لم يبق في ضرع أمه ما يمده بالحياة ففارق يشكو إلى ربه، كم حمل النيل في مراكبه من عبيد تمت سرقتهم من قراهم في دارفور وغيرها من مدن إفريقيا لكي يستمتع ببناتهم باشوات المدن الذين فقدوا إنسانيتهم. كم تُرى يزهد الإنسان في حياة كهذه لولا وجود بعض البشر أمثال هذه الإنسانة التي جاءت تستشفي من السلّ في مصر.

مترجمة إنجليزية اسمها "ليدى دوف جوردون" جاءت إلى مصر للاستشفاء من مرض السل وسط الطبيعة ، عاشت معظم وقتها بين عامي ١٨٥٢-١٨٥٩ في النيل بين الأقصر والقاهرة، كتبت 130 رسالة إلى عائلتها، تضمنت هذه الرسائل ذكرياتها وملاحظاتها وفلسفتها للعادات والطبائع والممارسات البشرية التي رأتها، نُشرت هذه الرسائل في أكثر من مجموعة، أولاهما نُشرت في حياة المؤلفة، وقد ظهر عنها كتابان بالعربية قبل هذا الكتاب. هذا الكتاب ترجمه وحرره الروائي إبراهيم عبدالمجيد بعد أن جمع بعض الرسائل التي لم تحتوها الترجمات السابقة، ومقدمة المترجم جميلة لدرجة تجعل أي محاولة لعرض الكتاب صعبة.

تذكر ابنتها في المقدمة علاقة العائلة مع الطفل حسن ما يدل طبيعة هذه السيدة: ذات ليلة ونحن عائدون من حفل مسرحي وجدت أمي الولد الصغير جالساً عند عتبة الباب، لقد طرده سيده لأنه كان مهدداً بالعمى، بينما عليه أن يذهب عادة بالرسائل إلى ميدان الملكة، لقد وجد طريقه كما قال ليموت في عرين سيدة بيضاء. لقد شفيت عيناه وصار عبد أمي المفضل وصديقي في اللعب، كان حسن يسبب الرعب للكاتب الأمريكي مستر هيليارد عندما يزورنا، غضبت أمي حين تساءل مستر هيليارد: "كيف للسيدة دوف أن تترك زنجياً يلمس طفلتها؟"، بينما كانت أمي تنادينا إليها وتقبلني أولاً ثم تقبل حسن. حسن كان نوبياً وكما يشير اسمه فهو مسلم وصل إلى ملكية مبعوث إنجليزي ربما تسلمه من تاجر عبيد، وبالطبع لم يكن يتكلم الإنجليزية ولا له لكنة أجنبية لكنه كان دائماً مستعداً بجمل وعبارات مستخدمة بين المسيحيين التقاة، ويحب -حين يستطيع- أن يطبقها كوسائل فخر ومجد لسيدته المحبوبة. مات حسن إثر تورم في الرئة قبل سفر سيدته إلى مصر بعامين، كانت تنحني على صدر حسن المسكين تدفئه، وهذا ما كانت ترفضه الخادمة الجديدة "لا أستطيع لمسه.. لا يا سيدتي"، الاحتقار الذي يبدو على وجه أمي للخادمة يلين ويتحول إلى تعاطف كبير حين تعيد النظر إلى خادمها النوبي الصادق. 

وقريباً من ذلك فإن دوف ذكرت في إحدى رسائلها المبكرة بينما كانت في المركب متجهة نحو الأقصر تقول: مرت أربعة صنادل ضخمة يجرّها مركب بخاري، ومحملة بمئات الفقراء الذين أُخذوا من بيوتهم للعمل في قناة السويس أو بعض قصور الباشوات نظير قرش واحد في اليوم يجدون به خبزهم وماءهم وملابسهم. واحد من طاقمي -عبدالرسول- تعرّف على بعض أقاربه من قريته القريبة من أسوان، تعالى الصياح طويلاً من الجانبين، وظل عبدالرسول البائس كئيباً طوال اليوم، ربما يأتيه دوره فيما بعد.

بعد مخالطتها أبناء الصعيد وبناته ذكرت أن كل واحد هنا يلعن الفرنسيين، 40 ألفاً من الرجال يعملون في حفر قناة السويس.. يموتون جوعاً.. كان هناك انفعال وإثارة مما سيفعله الباشا (الخديوي إسماعيل)، أعتقد أنه لو توقف عن السخرة  سيتخلى عن القناة.

أما عن الأماكن التي زارتها فتذكر: لقد شاهدت كل المعابد في النوبة وما وراءها، كما شاهدت 9 من مقابر طيبة، بعضها رائع جداً مثل أبوسنبل وكلابشة وكوم إمبو، لكن أجمل شيء رأته عيناي كان جزيرة فيلة. إنها تمنح الفرد إحساساً غير طبيعي وكبيراً كالذي تمنحه المناظر الطبيعية الواسعة في لوحات Claude وليست أقل منها. يقولون إن الشاب أُنس الوجود أجمل الرجال بنى معبد أُنس الوجود لأجمل الجميلات التي يحبها.

أما محبة المصريين لها فقد بلغت عنان السماء وهم يبتهلون من أجلها فى مولد سيدي أبو الحجاج في الأقصر، ومولد سيدي عبد الرحيم القناوى في قنا.

وقد كانت جديرة بما لقبها به المصريون البسطاء  "البشوشة" "الشيخة" "الست" "نور على نور".

تحدثت كثيراً عن اختلاطها بالبسطاء من الناس وتقديمها النصائح لهم فيما يتعلق بصحتهم وأدويتهم فتعالج الدوسنتاريا والربو مثلاً، وتسمع حكايات الناس وشكاواهم وتزورهم في بيوتهم وتحضر حفلاتهم، ولا تمتنع عن المشاركة في مواسمهم الدينية وتتبادل معهم الهدايا وتكتب ذكرياتها بأسلوب جذاب ومؤثر. تكتب أنها توقفت شمال طيبة قليلاً ومشت على الأقدام إلى قوص لترى مسجداً قديماً وقد سقط وصار خراباً، قدمت 10 بنسات للجامع لشراء زيت فالوقت رمضان والجامع يجب أن يُضاء. دعا لها خادم الجامع أدعية طيبة ليوم القيامة باعتبارها واحدةً من النصارى غير المتكبرين الذين يتمنون الخير للمسلمين كما قال النبي محمد. لقد صادر محمد علي باشا كل الأراضى التابعة للجامع وأمر بصرف ٣٠٠ قرش -أقل من جنيهين إنجليزيين- شهرياً لتغطية كل النفقات، بالطبع كان لا بد للمبنى القديم النادر بزخارفه ونقوشه الأرابيسك أن يتساقط، كان هناك جامع أصغر بالقرب منه.. قال خادم الجامع إنه قديماً عاشت فيه 40 فتاة عذراء يرتلن القرآن. وتعلق هي: هؤلاء راهبات مسلمات في الحقيقة. وبثقافتها كانت تربط الكثير من الطقوس المرتبطة بالدين ببعض طقوس الديانة الفرعونية أو النصرانية التي أثرت فيها.

تتضمن رسائلها الكثير عمن عملوا معها من خدم وعبيد وجوارٍ، تتعاطف مع آلامهم إلى أبعد الحدود، خاصة وهي تمقت العبودية والظلم. تذكر الجارية السوداء الصغيرة التي أُرسلت لها كهدية من القنصل الأمريكي، كانت الجارية سعيدة وتغني أغاني من كردفان.

طوال اليوم، بكت الجارية برعب عندما قال لها أحدهم إنها ليست مملوكة للسيدة الإنجليزية.. تخاف أن تنتقل إلى مالك آخر (تصرُّ على أنها جاريتي) تريد أن تكون هدية لابنتي الصغيرة ريني، وتضحك من قلبها حين تفكر في ريني. الجارية طفلة هادئة ورقيقة جداً، متوحشة صغيرة بائسة. وتعلق السيدة دوف بأن العبودية التامة للروح البائسة الصغيرة تزعجني جداً، إنها لا تملك إرادتها، تتحدث وتحكي كل مشاكلها وكيف هو بطال كل شخصٍ كان في الخرطوم، ثم تدعك أنفها الصغير في يدي وتضحك بسعادة وتقول: هنا كويس كتير"، وتحضن نفسها بفرح، أعتقد أن صغيرتي ريني ستحبها كثيراً.

تتطلع الكاتبة في رسائلها إلى مشروعاتها المستقبلية للترجمة والتي لم يمهلها المرض لتقوم بها، فتقول: أنا ذاهبة لأزور عائلة رسام فرنسي مسلم، له زوجة مصرية وبنات ناضجات منها، وهو عجوز محبوب جداً لديه مخزن أساطير عربية، أنا ذاهبة لأقنعه بأن يكتبها ويتركني أترجمها للإنجليزية.

لم تترجم هذه السيدة ما كانت تتمناه، لكنها تركت هذه الرسائل الأخاذة، لتؤرخ بها للحياة الاجتماعية لمصر في عهد إسماعيل، قيمة هذا التأريخ أنه كان يظهر الصورة الحقيقية للحياة في مصر خارج المدن حيث يعيش غالبية الشعب، هنا مصر بلا رتوش في ريفها وصعيدها، مصر التي دفعت ثمناً باهظاً من لحم ناسها لتحقيق طموح الخديوي إسماعيل. لا يفي بعرض ما في المذكرات مقال واحد بل تحتاج سلسلة من المقالات. ولا يستغني المهتم بتاريخ مصر الاجتماعي عن مطالعة الكتاب مرة وأخرى.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد