زخرفٌ وضلالٌ.. السوشيال ميديا بين الحقيقة والسراب

عدد القراءات
5,159
تم النشر: 2020/04/19 الساعة 08:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/20 الساعة 10:11 بتوقيت غرينتش

السوشيال ميديا أو "العالم الافتراضي" سيظل على حاله دائماً مرآةً عاكسةً على وجهين، منها الصالح والطالح. وجهٌ يظهر ما يحب الناس رؤيته، ووجهٌ يخفي، للأسف، كثيراً من الكسور في الجهة الأخرى. وهنا قرر الساعي ترك رسالة توضح بعض حواشي الصورة، وتفصل الرؤية عن التشويش.

عزيزي الصديق الافتراضيُّ الجميل الذي يراني -وغيري الكثير- شاباً تقيّاً وأديباً فذّاً وصديقاً مقربّاً؛ وها أنا ذا أفقر الناس علماً، وأشدُّهم افتقاراً إلى صديقٍ واقعيٍّ حقٍّ، أتعكَّز عليه وأشاركه فرحي وحزني، وما أحبُّ وأكره، وأنا أعلم الناس بنفسي!

سيدتي الفاضلة، والفتاة الطيبة، التي ترى فيَّ -وغيري الكثير- حبيباً أفلاطونيّاً، ونابغةً ذبيانيّاً، وزوجاً صالحاً لها، لأن أحدنا قد خطَّ كلمتين أو سطَّر مقالين أو نشر حتى روايةً في شأن المرأة، وحقوق المرأة، وكل عمل يقرِّبه إلى المرأة. وما أن أطبق البعض اليد، وأُحكم القيد، ذهب الزَّبد جُفاءً كأنَّه لم يكن!

إلينا جميعاً، يا من ننظر لغيرنا بعدسة الاكتمال، وزُخرف المثالية، ونقدِّس الناس وآراءهم حتَّى جعلناهم بالفعل آلهةً وأرباباً لنا. وفي الغالب، وبعد أول مقابلةٍ فعليَّةٍ على أرض الواقع، قد نلعن أولئك الذين رسمنا لهم -أو رسموا هم لأنفسهم- صوراً زائفةً زوراً وبُهتانًا، لأننا لم نفرِّق بين واقع الحال، والنظرة الشخصيَّة لما ينبغي أن يكون!

وإليَّ أنا؛ الغبيّ الشقيّ، والجاهل المسكين، الذي لم يسلم من هذا كله فوقع حيث حذَّر الناس، وانتكس حيث أنار للآخرين ظلمتهم، وانطفأ سِراجه كلمَّا أوشك أن يحترق!

● أولاً: برجٌ عاجيٌّ

اختصاراً، بشفافيةٍ دون تضليل، وبصراحةٍ دون تمييعٍ أو مبالغةٍ، أنتم لا تعرفونني، وبالتأكيد هؤلاء. ربما يروقكم ما أكتب أنا وغيري ليس أكثر، ربما فاتكم أنني لست مثقَّفاً كما أدَّعي، ولا أصل لنصف الصورة التي رَسمتُها -أو رُسمت- لي. في غالب الأمر لن يراني البعض مقصراً دينياً، فليس أمامهم سوى الواعظ الناصح المتعبِّد، ولن يدري ذلك المسكين حالاً بتعثُّري في جدول الضرب إلى الآن، أو غرقي في أخطاءٍ إملائيةٍ ونحويةٍ ربما تخطَّاها طالبٌ في سنوات دراسته الإعدادية، وأزيدك من الشعر بيتاً! ربما تجهل استعانتي بالعم "جوجل" حينما أبثُّ لك آيةً أو حديثاً أو حكمةً أو بيتاً شعريّاً لأحدهم؛ قد يفوق جهلي جهلك بهم. وأغلب الظن لا تلقي بالاً بتلعثم لساني اللَّعين بالكلمات بينما أخوض نقاشاً واقعياً مع أحدهم. وبالتأكيد يا سيدتي أنتِ لم تشهدي قطّ على معاملاتي الحياتية والأسرية والاجتماعية مع من حولي، ولم تختبري قدر تحملي، ولم يصيبك من حدة قولي أو لين سريرتي ما أخفته الشاشات عنكِ.

فيا إخواني وأخواتي، أوصيكم ونفسي ولستُ بخيركم؛ لا تحكموا علينا غيابيّاً حكماً مُطلقاً، إيجاباً أو سلباً، فتضعوا رقابنا تحت المقصلة بغير علمٍ أو دليل. هنا كلُّ الحروف مزخرفة، وكل الصور مبهرجة؛ حروف ضُبطت ووضعت نقاطها وفصلاتها، وصورٌ عُدِّلت ونُقِّحت حتّى تنفذ إلى أعينكم جميلةً ورائعةً. ومهما كتبنا وأردنا التعبير بصدقٍ عن مكنونات دواخلنا، فلن تنكشف حواشي الصورة، ولن يظهر للناس غير الجانب البرَّاق، والكادر الأجمل. فلا تُفرطوا في مدح أحدنا فينقلب علينا غروراً، ولا تذموا إخوانكم، عن حقدٍ أو حسدٍ أو اختلاف رأيٍ، فالحشر يومئذٍ قريبٍ.

أيها الأفاضل، خذوا الكلم ودعوا المتكلم، واعتنقوا الفكرة ولا تعتنقوا عقول مصدِّريها، فالعالم هاهُنا وهميٌّ، والقصور جلها عاجيةٌ، والمرء يرسم ما يحب للآخرين رؤيته، لا ما ينبغي أن يُرى حقيقةً. ويتكرر المشهد مراراً وتكراراً، عند هذا وذاك، فيظن الناس أن كل الناس لا فرق، ليس فيهم شقيٌّ ولا حزينٌ، ولا فقيرٌ ولا مسكينٌ. ثم تميل الكفة للجانب الأجمل، والقالب السلس، والصورة المثالية التي لا تشوبها شائبة. فاستمسكوا بما قد قيل: "ليس من أحسن في شيءٍ يحسن في كلِّ شيءٍ، وليس من أساء في شيءٍ يسيء في كلِّ شيءٍ".

● ثانياً: رمزٌ وقطيعٌ

ومن حقيقة مرة، إلى أخرى أدهى وأمرُّ، حقيقة -شئنا أم أبينا- تلاشت فيها واندثرت الثقة بين الرموز؛ البديل الحسن والسراج المنير تلك العتمة الذي تحيط بنا، فأصبح أكثرهم هم من يحتاجون إلى التدقيق والتحليل وإعادة النظر في محتواهم المرئي والمسموع. الكُتَّاب والمفكرون والعلماء والمشايخ والأطباء النفسيِّون وطلاب العلم والمنصات الإعلامية على اختلاف توجهاتها، ماذا حلَّ بهم؟ لقد صار الوسط ملغماً، ويرتدي الجميع -إلا من رحم ربي- عباءات مختلفةً تحمل رسائل لا يعرف باطنها من ظاهرها.

ومن سوءٍ إلى أسوأ، تحوَّلت الوسائل في نهاية المطاف إلى غايات، والغايات إلى سراب بقيعةٍ يحسبه الظَّمآن ماء، وأمَّا النوايا فهي آخر ما يُنظر له. لقد أصبح الحق منبوذاً، والباطل مباحاً، والشهرة غاية، والعُريُّ ثقافة، والتدين والاحترام جهلاً، والاحتكام للدين تعصباً، وطلب العلم فراغاً، والعبث والاسفاف عادة وعرفاً، وتحول فعل الخير إلى مظاهر لا مبادئ، وبالنهاية يسقط المرء في وادٍ سحيقٍ من الفخر والإعجاب والتملُّق، وينسى حقيقة نفسه وما له وما عليها؛ وما ذلك من شيءٍ، لكنه مرضٌ واستشرى!

وأقول لنا، ولهؤلاء، إنه ليس من الحكمة أن نتظاهر باحتكار الصواب المطلق، ونشيطن المخالف له أو لآرائنا تجاهه، فإن فعلنا -ويحدث هذا كثيراً- فإننا بذلك نقيم الحجَّة ذاتها علينا دون أن ندري، ففرضيَّاتنا ليست وحياً منزَّلاً في ذاتها، لأنها فرضية، ببساطةٍ شديدةٍ، تحتمل الصواب والخطأ.

وتفصيلاً، فكيف بإنسانٍ ناقصٍ قد آتاه الله علماً وحكمةً من لدنه، أن يجتمع عليه القوم، فيتغزَّلون بحكمته وعلمه وإدراكه، ولا يوجد بينهم من يناقش فكرةً أو يثري حواراً منطقياً حول طرحٍ ما؟ بل ويأخذون كل كلامٍ مسلَّمٍ به، ويقدسون ما أُوحي إليهم من حروفه، ولا يترفعون عن المغالاة في قدر هذا وذاك، حتى ألبسوه تاجاً ملكياً لا سلطان فوقه، ولا مناص لغير كلماته. وكيف بإنسانٍ ربما بلغ من الشهرة ما بلغ، أن يصعد إلى قمة برجه العاجي، فيدلو بدلوه هنا وهناك، ثم لا يقبل نقداً كان أو تصويباً، وينعت من لا يوافقونه الرأي بأتعس العبارات والألفاظ، وينتهج أمامهم الحدَّة المتعالية؟

نحن إذاً نجيد التظاهر بعمق، ونفرغ الشحنات النفسية بعباراتٍ بلاغيةٍ لا تقيم عملاً ولا تفنِّد فكرةً، ونخاطب المعجبين بما يحبون سماعه أو رؤيته، ولنا قدرةٌ عجيبةٌ على تصدير كل فكرٍ خياليٍّ إلى الواقع الافتراضي، فلا نراعي موازين القوى ولا ضروريات التغيير، ونجهل أوضاع المجتمعات والشعوب وما تؤول إليه، ونخوض في كل حادثةٍ لم تكن يوماً محطَّ تأثيرنا، ونعشق قصف الجبهات بتصيد الزلَّات. وفي النهاية انزلقنا إلى بئرٍ مليئة بالتناقضات والشبهات والمغالطات المنطقية، لأننا شغلنا بحواشي الطريق عن جادَّته.

فهل تكون الشهرة سبباً فعلياً في تغيير هوية المرء وانقلاب أيديولوجيته الفكرية والأخلاقية؟ هل وميض الأضواء وزخم البحث عن المكانة قد يؤدي -لا إرادياً- إلى تشوه القيم والمركزية الصحيحة لدى المرء؟ وهل على المرء من عزلة تعصمه من الناس ومن فتنهم وآفاتهم!

اللهم اعفُ عن كل مسيءٍ، وأظهر كل حقٍّ، وأزهق كل باطلٍ، وفكَّ الضيق عن كل مكروبٍ، وارزقنا يا رب البصيرة في الظلمة، والسداد حين العجز، واعتزال الناس كلما ضاقت بنا الدنيا بما رحبت.

وأمَّا النهاية فقد أفلح وأصاب من أربأ بنفسه فيما دون ذلك؛ لا يشغله الناس ولا ينشغل بهم، فلن تصنع الصورة فخراً، إن غرق صاحبها في لجِّ النقيصة.

ويبقى الإنصاف عزيزاً!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالرحمن القلاوي
كاتب ومدون
كاتب ومدون في عدة مواقع ومنصات إلكترونية. مواليد محافظة البحيرة - مصر فبراير/شباط ١٩٩١م، وحاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة ٢٠١٩م.
تحميل المزيد