نصل الرتابة حاد، وقلبي أول جرحاه، أبتلع عن طريق الخطأ عنكبوتاً ولا أتحول إلى سبيدرمان، مع الوقت أكتشف أن المعدة لا يمكنها هضم كائن متحرك، لذلك فقد اتخذت العنكبوت خطوات مدروسة، تجلس طويلاً على عتبة الأنبوب الهضمي، تستقبل ما يمكن أن تقتات منه، وتمضي لرص بيتها هنا وهناك. رئتاي تحولتا إلى لحمتين ملفوفتين بخيوط، ومحاطة بقفص صدري مهترئ اتخذته العنكبوت مكاناً مخصصاً لفضلاتها.
لم تسلم المضخة من استوطان العنكبوت لها، فكلما تحسست قلبي وجدته مهجوراً وقد يصنفه عالم الآثار على أنه غار على بابه شباك لم تمس. أما عن احتمال كونه ملفوفاً بالشباك فلا أدري، فالغالب على ظني أن العنكبوت قد اتخذته عرشاً لها، تجلس عليه كملكة تلقي الأوامر، وتشرب من الدماء مرة في الأسبوع قبل أن تقوم بجولة رياضية في ما تبقى من جسمي، لعلمها بأن الجلوس قد يتسبب في التخمة والانفجار.
تفرز العنكبوت سائلاً يخدر السيالات العصبية، فيتوتر العقل، فكلما بحث عن الخلل لم يجده، وجنود السيالات لم يلتقوا من قبل بعنكبوت تسكن الداخل، لذلك، فقد عجز الطاقم الجسدي كله عن معرفة السبب، وحده اللاوعي هو الذي يعلم، لكن، من يمكنه أن يصدق أن عنكبوتاً قد استعمرت جسداً ولم تتدخل قوات المناعة ولم يلق للحال بالاً؟
يصل موسم التزاوج والعنكبوت بتول، تصبح يوماً عن يوم طاعنة في السن، لكنها تظل عجوزاً مجتهدة مع ذلك، لن يكون لها خلفة إلا في حالة التهمت عنكبوتاً ليواسيها، أتساءل أحياناً: أتمرض العناكب بنزلات برد أو إمساك؟ فأضحك، دون أن يعنيني البحث عن إجابة.
أنام، فأرى في الحلم كرسياً ملكياً تجلس عليه العنكبوت، والغريب أنها لا تجلس بالمعنى الذي نعرفه، ولا تتخذ الوسط نقطةً ثابتةً لمركزها، وإنما تتحرك وتطوف حوله وحدها، فتتمتم كلمات لا أفهمها جيداً، بعد تكرر الحلم لخمس مرات استطعت أن أستمع إلى الكلمات التي تقول: "هذه الإمبراطورية ملكي وحدي، ويؤسفني بعد أن استطعت حياكة ملابس لكل الأعضاء أن تضيع جهودي هباءً منثوراً، استمعي إليَّ أيتها البشرية الغريبة، أيام قليلة وسأموت، وهذا شيء مؤسف حتماً، لكن قدرنا كان دائماً محصوراً في الانتظار، فعلى السقف قد أجلس عمري كله، وكي أتفادى الملل، أغير من شكل بيتي كل يوم، على أمل أن تطل ذبابة أو حشرة تصلح للأكل، فكما ترين، نحن كائنات صبورة، وهذا أول درس أريد منك أن تتعلميه: الصبر"، بهذه الكلمة تنهي العنكبوت كلامها كل مرة، فيتوقف الحلم وأعود إلى صحوتي مخلفة ورائي حلماً غريباً للغاية.
آخذ كلماتها بجدية، فأستحضر ملامحها عن قرب، فقد كان بطنها ضخماً، وأرجلها قوية لدرجة تجعلني أجزم أنها الأولى على ماراتون العناكب، ملامح وجهها عادية، علاوةً على أنني لا أملك معياراً لجمال عنكبوت، مما يجعلني أتراجع عن تقييم وجهها. أتساءل: لماذا لا تغير العناكب بيتها كلما غابت عنها الفرائس لأيام؟ فأقول في سري: كيف يمكن للعناكب أن تدرك الزمن؟ وهل حقاً تستطيع التمييز بين طويل الوقت وقصيره؟ ولا جواب حتماً، فلا عنكبوت أمامي لأستجوبه.
كان في بيتنا عنكبوت تحبه أمي ما دام لا يؤذينا، أصرخ كثيراً كي تقتله لكنها دائماً ما ترفض قتل حشرة لا ذنب لها، وجبراً بخاطري تتخلص منها برميها بعيداً، وما أن تمر ثلاث ساعات كاملة حتى آتي وأجدها قد عادت وباشرت في بناء بيتها من جديد، الشريرة، لا تتعب أبداً. أهذا ما قصدته العنكبوت عندما قالت بأن الصبر هو كل عليّ أن أتعلمه من العناكب؟
أفكر ملياً، أفكر أطول، أكثر، محاولة الإجابة عن سؤال: "ما الذي يمكن تعلمه من العناكب؟"، فتخطر ببالي فكرة الوقت المناسب، بتوضيح أكثر: العناكب تجيد اختيار الوقت المناسب، في اللدغ والفرار والانقضاض على الفريسة.
تحت احتمالية أن العناكب تستطيع أن تبني بيتاً في أي مكان تشاء، تحب العناكب أن تستقر، فهل الاستقرار درس آخر وميزة تؤمن بها العناكب؟ قال هاروكي موراكامي مرةً بأن الأمر جيني، وبأن الانتظار من تركيبة الحمض النووي. أحاول إسقاط الأمر عليَّ؛ إذا ما كنت أنتظر شيئاً ما، فحتماً سأظل في نفس العتبة، فإني سأخاف وصول المنتظر إذا ما غيرت الوجهة إلى عتبة أخرى سأعيد –فيها- مؤقت الانتظار إلى الصفر، وأبدأ من جديد، ولمدة أطول. على العموم، فلست عنكبوتاً تجيد اقتناص اللحظات ولا قارئة فنجان أملك خريطةً بائسة على يدي لأعرف مكان حظي.
تغيب العنكبوت عن أحلامي يومين، وفي الثالث تزورني وملامح الشيخوخة بادية عليها، كنت يومها مصابةً بحمى، لذلك قد يكون الحلم هلوسةً، وعلى عكس المرة الماضية، تجلس العنكبوت هذه المرة وكأن أقدامها قد خانتها مستندةً إلى عكاز وعلى عينيها نظارات، كيف حصلت عليهما وجسدي ليس مختبر عيون ولا بائع عكاكيز فيه؟ على أي، قد تكون خاصية التصنيع الذاتي توقدت وتفعلت لديها، جلسنا صامتتين، وبعدها بصوت به بحة قالت كما لو أنها تقرأ أفكاري: "أعتقد أنك تعلمت الدرس، فقط تأمليني أكثر، هذا الجسد النحيل الماثل أمامك، كان قوياً، لكن كل الأشياء تتداعى كما تعلمين، أنت اليوم فتية، وغداً ستغادرين. سامحيني لأني اتخذت ما ليس لي كما لو أنه لي، فقد تمردت على طبيعتي، واخترت أن أكون مختلفةً ولم أشأ أن أستسلم للقدر الذي رماني في أحشائك، أقف طويلاً على فوهة معدتك، أنظر إلى مصير الأكل، وكيفية طحنها لكل ما يقترب منها، فتمتص ما تشاء، فخشيت أن يؤول بي الأمر مثلهم، أن أجد قدمي في جهة وقدمي الأخرى في جهة أخرى، مجرد تخيل أنني سأموت بطريقة بشعة كان يزرع بداخلي شعوراً مقززاً، بعدما يئست مرةً، قررت أنني سأفعلها وأقفز إلى معدتك، لكنني أحببتك وتعودت على الاستماع إلى دقات قلبك، كما قد تعودت على الاعتناء بك وتغليف أعضائك وعظامك، كما أنني أنظف الأنابيب إذا ما علق بها شيء، والسيء من كل هذا هو أن بي سماً سيفتك بك إذا ما ارتخيت لحظةً ووقعت في أحشائك، ستمتص جدران معدتك كل سمي، ستموتين، أؤكد لك، فحتى اللحظة، وأنا عجوز، ما زال السم جزءاً منِّي، بتركيز مضاعف حتى"، ما أن سمعت كلامها حتى صعقت، سألتها بذهول: "هل هذا يعني أنني سأموت"، فقالت بأسف بادٍ عليها: "يتعين عليك الحصول على مصل مضاد، وأنا سأموت بعد قليل، والسم سيبدأ رحلة الانتشار في جسدك ما أن يبدأ جسمي في التحلل. سيولد المصل في ذاتك ما أن تعترفي بي، كجزء منك، وجب التخلص منه"، فتلاشت، واستيقظت وأنا ألهث، شربت ماءً، والتقطت أنفاسي، هل حقاً سأموت؟ كيف يجب أن أعترف أن العنكبوت جزء منّي؟
أذهب نحو الحمام مباشرة، أغسل وجهي لعلي أستفيق، فأذهب للجلوس على الأريكة، ماذا يعني أن العنكبوت جزء منّي؟ والمصل سيتولد إذا ما اقتنعت بهذا.. سرحت في السقف، وفجأة انتبهت لوجود عنكبوت هناك، بدأت أتأملها، فصرخت بعد مدة: "لعلي فهمت القصد"..
كل ما بداخلي مهجور، كما لو أن عنكبوتاً تسكنه، لا يحوم في الأفق عصفور يغني، ولا أمكن الربيع أن ينمو في تلال اتخذتها العناكب مسكناً، أنشر السم بنفسي في نفسي، وكعنكبوت سمها فيها، أقف على عتبة الانتظار، وليس في قدري ولا في جيناتي ما يدعو للفعل، أجلس في مكان واحد في حين أني أستطيع رمي كل شيء وراء ظهري وهدم الخراب والذهاب نحو بستان أخضر يفتح يداه من أجلي. تزيحني الأحلام بركلة خفيفة فأتراجع، ولا صبر أمام ضربة لا تؤلم، والحياة أغلبها قاسية. أرمي شباك الأمل في أماكن لا يجب أن ترمى فيها، فالصياد يعتمد على حدسه، ليس بمعنى كرتوني يغلق فيه الصياد عينيه فيشعر باقتراب السمكة المنتظرة من الصنارة، بل بمعنى التجربة، فالصياد المحترف هو الذي يجيد ويعرف اختيار المكان الصحيح، وبعدها تأتي اللحظة المناسبة، والوقت كاف ليملأ الشباك، ولا يعود الصياد بخردة علقت في البحر. هكذا إذن، الاعتراف هو الخطوة الأولى، كانت العنكبوت بداخلي طوال الوقت، بقلبي المهجور، وروحي الخربة المسمومة، لكنني لست عنكبوتاً، وهذا.. لا يجب أن يستمر.
أركض نحو الحمام من جديد، فأتقيأ عنكبوتاً، هذا ليس كابوساً إذن، وتخميني في محله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.