من قلب المعركة أكتب لكم: كبار السن يطلبون الموت بسلام ونحن يقتلنا الإرهاق
أنا طبيب متخصص في جراحة العمود الفقري منذ 15 عاماً، ولم أشتغل بالطب الباطني من يوم تخرجت في كلية الطب. لذلك كنت أشعر بالخوف والخضّة مما كنت مقدماً عليه، لعله أكبر مني ومن إمكانياتي.
لما وصلت المستشفى الجديد، رأيت لأول مرة ذلك الكورونا الذي يتحدث الجميع عنه، الفيروس الذي أسمع عنه عبر التلفاز وأثير الراديو منذ 4 أشهر. رأيت كوفيد-19 المرض الذي لم تره الأرض والبشرية من قبل، حتى أن كثيراً من الناس يشككون في وجوده من الأساس.
في يومي الأول لم أعرف كيف أتصرف وكيف أتعامل معهم، لكن والحمد لله ذهبت الرهبة وانقشع الخوف مع الوقت، وصرت قادراً على حملهم -أي المرضى- والكشف على صدرهم وقلبهم وبطنهم وسحب التحاليل منهم وتعليق المحاليل لهم.
صباح كل يوم هناك اجتماع للقسم بأكمله في تمام الساعة ٨ صباحاً، نتابع تطور الحالات والحالات الجديدة التي تم حجزها بالمستشفى ليلاً.
وفي تمام الساعة الواحدة ظهراً، نعقد اجتماعاً مع قسم الأشعة حتى نناقش أشعات المرضى كلهم مع أطباء القسم.
هذا العمل بهذه الوتيرة والمنوال مرهق للغاية، جسدياً وعقلياً، بصورة يصعب تصوّرها.
طوال الوقت، طالما لا تتعامل مع المرضى، عليك ارتداء واقي الوجه العادي والمعروف. لكن قبل الدخول على المريض يجب ارتداء واقي الوجه N95 مع وضع النظارة الواقية، بالإضافة إلى معطف العزل والقفازات. قناع الوجه تقيل جداً، ويعيق التنفس بشكل مرعب لكنني مجبر على ارتدائه لقرابة ٥ ساعات يومياً هي فترة تعاملي مع المرضى.
ينتهي دوام العمل في حدود الخامسة عصراً، أتوجه إلى غرفة تغيير الملابس، أغسل جسدي بالمياه والصابون وأحياناً بالكحول. واستغرق قرابة الساعة في تنظيف جسدي بعد العمل. أرتدي واقي الوجه الجديد ثم أنطلق إلى المنزل الذي لا يبعد كثيراً عن المستشفى ما يسمح لي بالمشي وسحب بعض الهواء العليل المنعش.
في المنزل، لا أخلع القناع، أهرب من أولادي حتى يناموا، وهم لا يعرفون سر محاشاتي القرب منهم، ولا يفهمون ما يجري في العالم. وأنا كاتم في صدري لا أبوح.
الموت في سلام
لم يكن هناك متسع من الوقت للاندهاش ولا مجال للكثير من الأسئلة عندما وطأت قدمي المستشفى أول مرة، تم تكليفي مع طبيبة ألمانية صغيرة في السن كمسؤولين عن 15 مصاباً بكورونا من كبار السن، 5 منهم فوق الـ 95 سنة والبقية تتراوح أعمارهم ما بين 75 إلى 85 عاماً.
وكان المستشفى الذي انتقلت إليه مجهز بأربع مستويات لعلاج مرضى الكورونا:
. المستوى الأول: قسم الحالات المشتبه بها. وهؤلاء هم المرضى الذين يأتون بأعراض كورونا إلى المستشفى لكن لم تثبت التحاليل إصابتهم بعد.
. المستوى الثاني: قسم الحالات المؤكدة. وهؤلاء هم المرضى الذين أثبتت التحاليل إصابتهم بالمرض. وهم يعانون من الأعراض لكنهم لا يحتاجون إلى العناية الفائقة أو أنهم المرضى الذين سيموتون ولن ينفعهم علاج ولن نزج بهم إلى غرف العناية المركزة.
وذلك هو القسم الذي أنا مسؤول عنه.
. المستوى الثالث: قسم العناية المتوسطة.وبداخله يقبع مرضى في حالة متقدمة لكن لا يحتاجون إلى الوضع على أجهزة التنفس الاصطناعي.
. المستوى الرابع: قسم العناية المركزة.وعلى أسرَّته يجلس المرضى الذين يصارعون الموت بمساعدة أجهزة التنفس الاصطناعي.
يتبادل المرضى الأقسام على الدوام. مَن تتحسن حالته يهبط إلى المستوى الأدنى، ومن تتفاقم وضعيته وتسوء ينتقل للمرحلة التالية من العناية.
وما لاحظته في هذه الفترة هو أن المرضى شديدي الإعياء لا يعانون من كورونا فقط. بل يعانون بالأساس من أمراض لا حصر لها.
ونحن بالفعل لا نعالج كوفيد-19 لأنه لا علاج له، لكننا نعالج مضاعفاته التي وقعت داخل الجسد كرد فعل على الفيروس. معظم المرضى يعانون التهاباً رئوياً بكتيرياً مع فيروس الكورونا، وهؤلاء يحتاجون لمضادات حيوية، وكثير منهم -خاصة كبار السن- يعانون من أمراض الكُلى والكبد والقلب، وهؤلاء تحديداً يعانون أشد المعاناة.
عند دخول المستشفى، يُسأل جميع المرضى عن موافقتهم على العلاج في العناية المركزة في حالة تدهور الحالة.
وهذا سؤال طبيعي هنا، في أوروبا، لأن المريض لا بد أن يوافق على أي تدخل طبي يُجرى له. هناك مرضى كُثر مصابون بمرض الزهايمر، وهؤلاء نسأل أولادهم حاملي حق الرعاية القانوني. والذين بلا أبناء متاحين للسؤال، نسأل الموظف المسؤول عنهم في بيت الرعاية. لكن المفاجأة هي أن كثيراً من كبار السن والذين يعانون من أمراض أخرى يطلبون الموت في سلام، ولا يرغبون في التألم أو المعاناة من أجل أن يعيشوا بضعة أعوام إضافية. وهؤلاء نتركهم في القسم دون تدخل كبير. وإن حاولنا التدخل، تجدهم رافضين للدنيا. فهم ممتنعون عن الطعام والشراب والدواء.
باختصار، نقف نشاهدهم وهم يودّعون دنيانا.
كما مرضى كُثر كنا نحضّرهم للخروج، وفجأة تتدهور حالتهم ويحتاجون لأوكسجين عالٍ وعلاج مكثف. هؤلاء عادة من كبار السن. أما المرضى صغار السن فيمرون بتعب الإنفلونزا العادي تحت رعايتنا، ثم يعودون إلى منازلهم حتى ولو كانت نتيجة التحليل إيجابية.
ويذهب المريض إلى منزله في حالتين: الأولى هي أن تكون نتيجة تحليل كورونا الخاص به سلبية ولمرتين متتاليتين.
والثانية هي بقاؤه في المستشفى لمدة يومين دون أعراض حتى وإن كان نتيجة التحليل إيجابية، مع بقائه في العزل لمدة أسبوعين.
ولو كان باقي أفراد العائلة أصحاء بلا كورونا، يطلب من المريض المكوث في غرفة منفصلة وتقاسم وقت استعمال المرحاض بينه وبين باقي أفراد الأسرة.
وهذا البروتوكول ليس خاصاً بالمستشفى الذي أعمل به، إذ إنه ينفذ تعليمات مكتب الصحة، المتحكم في كل التفاصيل.
ومكتب الصحة ينفذ تعليمات معهد روبرت كوخ، وهو الكيان المسؤول عن مكافحة الأمراض المُعدية في ألمانيا، والمعهد هو المتحكم الأول في كل شيء يجري على الأراضي الألمانية حالياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
تقدر شركة إنتغرال ميديا الاستشارية المحدودة خصوصيتك وتعلم جيدًا كم هي مهمة لك وأنك تهتم بكيفية استخدام
بياناتك الشخصية.
نحترم ونقدّر خصوصية جميع من يزورون موقع عربي بوست، ولا نجمع أو نستخدم بياناتك الشخصية إلا على النحو الموضح في
سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط، ولأغراض تحسين المحتوى المقدم وتخصيصه بما يناسب كل زائر؛ بما يضمن تجربة
إيجابية في كل مرة تتصفح موقعنا.
تعتبر موافقتك على سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط أمرًا واقعًا بمجرد استمرار استخدامك موقعنا. يمكنكم
الموافقة على جميع أغراض ملفات الارتباط بالأسفل، وكذلك يمكنكم تخصيص الأغراض والبيانات التي يتم جمعها. يرجى
العلم بأنه حال تعطيل كافة الأغراض، قد تصبح بعض مزايا أو خصائص الموقع غير متاحة أو لا تعمل بشكل صحيح.
تخصيص الإعدادات
الإعلانات والتحليلات
التحليلات والاستهداف
قياس جودة المحتوى
اقترح تصحيحاً
من قلب المعركة أكتب لكم: كبار السن يطلبون الموت بسلام ونحن يقتلنا الإرهاق