مرت أربعة أشهر ولا يعلو صوت فوق صوت كورونا. فالبداية من البؤرة الأولى ووهان، ثم اخترق الوباءُ الأسوار وعَبَر المحيطات إلى أن تحول العالمُ إلى غرفة بملايين الجدران، بعدما كشف "كوفيد 19" عن وجهه المخيف. وبالتالي تفاقمت المخاطر، بينما يترقبُ الجميع ارتفاع الدخان الأبيض من صومعة العلم يتصاعدُ عدد المصابين والوفيات، وفي ظل هذا المناخ المثخن بالتوتر والقلق يحتاجُ الإنسانُ إلى إسباغ المعنى لما يعيشه، لذا لا عجب من إثارة اللغط وسيولة التأويل بشأن الحدث الأبرز.
كورونا كارثة كونية
كورونا ليست مجرد أزمة، بل كارثة كونية بكل المقاييس، لقد فُرض الحجر الصحي على نصف سكان الأرض، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ. هناك اقتصاديات كثيرة مرشحة للانهيار، الزعامة الأمريكية للعالم تترنح، الرئيس الأمريكي نفسه وبعد أن سخر من "الفيروس الصيني" لبعض الوقت اضطر مرغماً أن يتخذ قراراً غير مسبوق بتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ أعلن تصنيف جائحة كورونا باعتبارها كارثة وطنية، وهي حالة سياسية ودستورية بالغة الدقة.
كما هو الحال في كل الكوارث السابقة، هذه الكارثة لها ما بعدها. لا نستطيع أن نتوقع كل شيء، لكن الأكيد أن كل شيء سيتغيّر. بلا شك ستتغير كثير من المعطيات حول وظيفة الدولة وعلاقتها بالخدمات الاجتماعية من قبيل الصحة والتعليم، وحول تقنيات العمل الإنتاجي والخدماتي عن بعد، سواء بالنسبة للمقاولات أو الإدارات.
هذا، وسيدرك الجميع في النهاية ألّا وجود لمكان آمن، ولا وجود لوضع اجتماعي آمن، وأن امتلاك جنسيات متعددة، وأرصدة بنكية في الجنات المالية، كل ذلك قد لا يَمنح للمرء أيَّ خلاص فرديٍّ أو عائلي، وقد لا يمنحه أي امتياز في النهاية.
إن المغزى العميق للحجر الصحي أننا نتضامن كنوع بشريّ لأجل كسر سلسلة انتقال العدوى، وأننا مجرد حلقات في السلسلة، وألّا أحد يمكن أن ينجو وحده. قبل أيام قليلة مات أحد أثرياء العالم بسبب فيروس كورونا، لقد أصيب جهازه التنفسي فجأة، واختنق بسرعة، كان يمتلك كل شيء، لكنه مات وهو يبحث عن شيء مجاني في النهاية؛ الهواء.
مع انتشار فيروس كورونا وتفاقم مخاطره رشحت عدة سيناريوهات حول هذا الوباء العالمي، ذهب البعض إلى أنَّ ما يجري هو حرب بيولوجية بين القوى المتنافسة على قيادة العالم، وثمة من يرى أنَّ الوباء ليس إلا فخاً "مالتوسياً" لخفض عدد سكان الأرض.
ورغم أنّ فيروس كورونا قد تمّ اكتشافه منذ عام 2013 داخل كهف يعيش فيه أحد أنواع الخفافيش بإحدى مناطق الصين، فإن انتقاله إلى الإنسان في مطلع العام الجاري 2020، وسرعة تفشيه بين الناس في مختلف أرجاء العالم، كل هذا قد فاجأ الجميع.
وبصرف النظر عن أن بعض المختصين قد توقع منذ البداية إمكانية انتقاله إلى الإنسان، وهناك من حذَّر مبكراً من خطورة الاحتمال، إلَّا أن الأمر يتعلق بفيروس جديد، تبقى المعلومات حوله شحيحة جداً، وبالتالي كان يصعب التكهن بـ"سلوكه". لقد كانت سرعة الانتشار مفاجئة للجميع، بمن فيهم العلماء والخبراء وقادة الدول.
وفعلاً، أمام الصدمات غير المتوقعة عادة ما تظهر ضمن الفرضيات الرائجة فرضيات قائمة على مشاعر غامضة، من قبيل الإحساس بوجود مؤامرة أو لعنة أو مخطط، أو ما إلى ذلك من تفسيرات سحرية تضرب بجذورها في اللاوعي الجمعي للبشرية كافة، لكنها فرضيات قد لا تصمد طويلاً أمام اختبارات الواقع والعلم والأخلاق.
بالموازاة، تكتنف الإنسان رغبة غريزية في العثور على معقولية معينة للكارثة، لماذا حدث ما حدث؟ هنا يظهر نوع آخر من الفرضيات التي قد تكتسي لبوساً علمياً، لكنها لا تخلو من طابع سحري: الطبيعة تنتقم، الطبيعة تستعيد توازنها البيئي، الطبيعة تقوم بإبطاء معدل النمو، الطبيعة تقوم بخفض نسبة التعداد السكاني… إلخ.
خلاف مزاعم الكثيرين في بادئ الأمر، فقد تأكدنا بفعل التجربة وكلفتها أيضاً أن كورونا لا يصيب كبار السن فقط، ولا يقتل كبار السن وحدهم، كما أنه لا يستثني الأطفالَ الصغارَ، بل إنه لا يُميز بين الأعمار. وبذلك النحو انهارت إحدى الفرضيات التي راجت في البداية حول أن كورونا ينتقي المسنين ويستثني الأطفال الصغار. غير أن هذه الفرضية -حتى لا ننسى- نابعة من نوع من الاستعداد الغريزي المبطن لأجل تقبل مبدأ الانتقاء الطبيعي، حتى ولو أن ضمائرنا الأخلاقية لا تتحملها.
أين اللقاح يا ساسة؟
في بداية الأزمة صرَّح السياسيون بأن إيجاد اللقاح سيتمُّ في غضون مدة قصيرة، لكن قد مرت أشهر ولا يزال العالم يترقب صعود الدخان الأبيض من المختبرات، ما يجعل كثيرين يتساءلون: هل أصبح كورونا موضوعاً مسيّساً وأداة للسياسيين يستخدمونها لرفع أسهمهم؟
بالنسبة للعلماء والخبراء فقد كانت تقديراتهم منذ البداية أن الوصول إلى لقاح مناسب سيحتاج إلى شهور طويلة لأجل إجراء التجارب المخبرية، ثم التجارب على الحيوانات، ووصولاً إلى التجارب على الأشخاص المتطوعين، وذلك قبل الإعلان عن اللقاح. وكل هذا يتطلب جدولاً زمنياً من العمل والاختبار والتتبع، قد يستغرق عاماً كاملاً.
غير أننا نتفهم تصريحات بعض الساسة المتحمسين لفكرة قرب الوصول إلى اللقاح، باعتبار أن ذلك ينمّ عن رغبة قد تكون مبرّرة لدى المسؤول الأول لكل بلد في أن يكون بلده أول من سيتوصل إلى اكتشاف اللقاح، لكل ما يعنيه ذلك من فخر وطني ونصر انتخابي كذلك.
عزاء الفلسفة
أثناء كل كارثة ماذا يحدث؟ اليساريون يتهمون الرأسمالية، البيئيون يتهمون الصناعة، النباتيون يتهمون آكلي اللحوم، المؤمنون يتهمون الكفار، وأحياناً يتهم الجميع السماءَ، أما أنا فلا أتهم أي أحد. أعتبر أن الشر موجود منذ الأزل في الطبيعة والعالم والحياة، وبنحو جذري كذلك. بالمناسبة أتفق مع "تشاؤم" فولتير وشوبنهاور، غير أني أعتبر ذلك "التشاؤم النظري" هو شرط السعادة العملية، حيث إن الكارثة ليست عقاباً من الله أو الطبيعة، بل هي ظاهرة طبيعية تماماً، وإن كانت لا ترحم هشاشتنا ولا ترحم أطفالنا، فالسبب بكل بساطة أن العالم لم يُخلق لأجل إرضائنا، كلنا طفيليات ترقص في النهاية، وإلى النهاية.
لذلك أقول إن الوظيفة الأساسية للفلسفة هي العزاء، لست أنا الذي يتحدث هنا، أنا فقط أتفق مع فلاسفة العصر الروماني، والذين أجمعوا على الوظيفة العزائية للفلسفة، ومارسوا الفلسفة على ذلك النحو، بل إن المفهوم المحوري لمعظم نصوص الفلسفة الرومانية هو العزاء بالمعنى الفلسفي للكلمة.
العزاء الفلسفي خطاب برهاني يحمي قدرة الإنسان على التفكير والحياة والعيش المشترك في عالم غير آمن. وأما اليوم فقد تأكدنا بالدليل الإضافي أننا نعيش فعلاً في عالم غير آمنٍ، وأن ذلك الحال هو قدرنا في كل الأحوال.
فقد تأكدنا اليوم بالدليل الإضافي بأننا نعيش فعلاً في عالم غير آمن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]