تحت البناية تقف سيارة الإسعاف، بجوارها ممرضان، ينتظران زميلين آخرين بالأعلى، يحضران السيد الذي ثبتت إيجابية تحاليله، وأُبلغ بإصابته بالفيروس المحزن، يحملانك -عافاك الله- بحرص شديد، يتعاملان معك كأنك قنبلة موقوتة، قطعة متطايرة من انفجار مفاعل "تشيرنوبل"، يقتربان بحذر، ويعقم المكان بعد النزول بك إلى الإسعاف، زملاء آخرون.
أنت الآن في الإسعاف، مصاباً بكورونا، لكنك تكتشف في الطريق أن إصابتك الكبرى في نفسك، التوتر يخنقك لا الفيروس التاجي، الخوف ينتشر في جسمك بسرعةٍ أكبر من سرعة انتشار السرطان في أجسام المساكين، القلق يجعلك تتنفس بصعوبة بالغة، عمليات التعامل معك كمفاعل نووي، رغم ضرورتها، تصيبك بالسخط على كل هؤلاء، وهم مساكين مثلك، لكن الإنسان يصب غضبه على الأكثر براءةً دائماً، تعتذر لهم، وتستغفر الله، وتدعوه في سرك.
الأعراض كانت طبيعية للغاية، كانت أقل من "نازلة برد"، وها أنت الآن تشعر بأنها أعراض موتٍ قريب، الجو حولك يفوح برائحة اليأس، والجميع يتحدثون عنك بالخارج، المارون على بعد عشرين متراً من المستشفى، وحتى آخر واحد يمر بآخر جسرٍ في جنوب الكرة الأرضية أو شمالها، الجميع أنت موضوعهم، أنت قضيتهم المشتركة، ليست الكوليرا لتشغل جنوب الأرض وشرقها فقط، وليس الإيدز ليشغل شمال الأرض وغربها فقط، وإنما "كوفيد 19".
تدخل المستشفى، وتتعهد برفع قضية في مجمع اللغة العربية فور خروجك إن شاء الله، بأن يغيروا اسمه إلى "المستمرَض"، نظراً لأنك تبدأ الإعياء الحقيقي في الداخل، بينما قبل دخول ذلك المكان كنتَ تشعر بمجرد وعكةٍ صغيرة.
تمر الأيام، بين متابعةٍ وعلاجٍ وتحسنٍ وتعبٍ مجدداً، يشعر الشخص بأنه في أفضل حالاته اليوم، ثم في اليوم التالي، يشعر بأنه سيموت غداً، ولا يضمن مؤشرات الأجهزة الطبية، الجميع هنا يتحدث عن الذين ماتوا بعد أن شعروا بتعافيهم، وعن الذين خرجوا من المستشفى بعدما ظنوا أنهم لن يخرجوا منه إلا على نقّالة، الجو يوحي باكتئاب مزمن، لكن أفراد الطاقم الطبي يستحلفونك أن تضحك، وأن تنبسط، وأنّ الأمور ستكون على ما يرام، لأن المناعة تتأثر بالنفسية، فأنت مطالبٌ ببذل مجهود نفسي ألا تمرض نفسياً.
في المكان ذاته، ترى الذين تتردى حالتهم، ويهرولون بهم إلى العناية المركزة، إلى الـ"إن..عاش"، يضعون لهم طناً من الأسلاك والخراطيم داخلهم، ليبقوا رئاتهم على قيد الحياة، ليربطوهم في أماكنهم داخل حيز الخدمة، ويغرون الجسم المتهالك ببعض الأجهزة التي ترفع من كفاءته حتى يقيم صلبه من جديد، والجسمُ لا يملك من الأمر شيئاً، أُخذ على حين غفلة بينما ظن نفسه بعيداً عن الصورة، قال: "بالتأكيد ليس أنا"، ثم وجد نفسه بينما يتابع الأخبار، ويسمع الأرقام، رقماً جديداً مضافاً إلى هؤلاء، اليوم الذي تفاءلوا فيه وقالوا انخفض معدل الإصابة، كان واحداً من هؤلاء المصابين، أو اليوم الذي قالوا فيه إن الفيروس يزداد شراسة، كان واحداً من هؤلاء الذين عضّهم المرضُ من حيث أعطاهم الأمان.
تشعر أن الموت أقرب من أي وقت مضى، تراه يحيط بك في جانب، تراه في عيون الممرضة الآسفة على موت "جدو" كبير، كان يقول لها "يا بنتي"، وتراه في جري الأطباء إلى إحدى الغرف، ثم سير الحانوتية ببطء ليحملوا ضحيةً جديدة، تراه في "ممنوع الزيارة"، وعدم السماح لأي أحد، كائنًا من كان، بالوجود بجانبك، تراه في سقف الغرفة، وفي الأصوات القادمةِ ضعيفةً من الشارع، وفي سارينة الإسعاف المفزعة، والتي لم تسمع سكوتها منذ دخولك إلى هذا المكان.
ترى الموت قريبا إلى درجة مفاجئة، لأن الذي في قبره الليلة، كان بغرفتك أمس، وأنت حين أصبتَ أمس، كنتَ متوعكا قليلا أول أمس، ويقولون عنك "حالة اشتباه"، وقبل أن يشتبهوا بإصابتك، كنتَ شخصا عاديا مثل الملايين الذين يسيرون خارج هذا المكان.
تبدو لك الحياة أتفه مما كنتَ تتخيل، وتبدو لك أثمن مما تتخيل، بين أنها لم تكن تستحق كل هذا التشنج، وأنها كانت تستحق أن تبذل فيها بكرمٍ وهدوءٍ على الذين من حولك، وأن تغدق الجميع بعطفك. أنت الآن ضعيف، هزيل جدا، لا تقوى على شرب كوبِ الماء بنفسك، ولا تقدر حتى على التنفس بنفسك! يجلبون لك جهازا وممرضا يساعدانك في ذلك.
تعرف أشياء لم تكن تعرفها من قبل، ترى شريط العمر أبطأ مما يراه المتوفى، وتتوقف عند المشاهد، وتود لو عدت، وفرصتك أكبر من الذين رأوه للمرة الأخيرة، أنت محظوظ الآن، لأن هناك احتمالا لعودتك، لتنفذ كل الوعود التي قطعتها على نفسك وأنت معدَمٌ في سريرك، ككل "العائدين من الموت"، الذين حين عادوا، وُلدوا من جديد.
في الغرفة، تنقص الأعداد لسببين، إما لخروجِ متعافٍ بعد انتصاره على المرض، أو لخروجِ شهيدٍ لقي حتفه في أثناء المعركة، لكن الجميع يشهد له بأنه كان جندياً مقاتلاً، صبر كثيراً، لكنها طبيعة الحرب.
وأنت بين هذا وذاك، لا بد أن تخرج، تنتظر الخروج، لكن على قدميك، لا على أقدام الآخرين وهم يحملونك، أخبرتُك أن الجوّ صعب، أنها حربٌ نفسية، تريد أن تلفت نظر العالم، بأنّ إدارة الأزمة لا يمكن أن تمر من خلال وزارة الصحة فقط، وإنما تحتاج إلى جهاز "الشؤون المعنوية"، أنت تموت كل يومٍ، وتفتح عينك في الصباح لتتأكد أنها كانت "مزحةً ثقيلة" في حلمك من القدر الساخر دائماً.
أنت هنا في الداخل، قلقٌ بشأن الذين في الخارج، كيف يقضون حياتهم في القلق عليك، وهم يسمعون كل يومٍ أرقام القتلى أكبر من أرقام الناجين، وكيف لا يتخيلون السيناريو الأسوأ دائماً، وكيف يهربون من حضوره أمام أعينهم كلما فكروا بك، أنت تحارب هنا، لكنّ مناوشاتٍ دائرةً هناك تشغل حيزاً غير بسيطٍ من عقلك.
أنت هنا، تريد أن تقول للجميع، يا ناسُ أرجوكم لا تتهاونوا، الجيش كله يخسر إن ضعف جزءٌ واحد منه، المهمة تصير أصعب حين تتقهقر بعض الكتائب، وتريد أن تخبرهم: كنتُ حريصاً كل يوم، وفي اليوم الوحيد الذي استخففتُ فيه بالمرضِ.. أصابني.
لكنك تتعلق بشيء في داخلك، ما زال يعمل إلى آخر لحظة، لا يفارقك أبداً، تدرك أنها عناية الله، وأنه معنى "المعيّة"، يعني أن الذي خلقك ووضعك على قيد الحياة، ثم خلق الكائن الذي يهدد بقاءك على قيد الحياة، "معك"، في صفك دائماً، يعطيك الاختبار، ومعه إرشادات الإجابة، وأنت تتمسك به، تحتفظ به في صدرك، وتراجعه بلسانك كل حين، لأنك واثقٌ بأنك على كل حالٍ ستحصل على شهادة التخرج مع مرتبة الشرف، فيطمئن قلبك، وتجتهد أكثر، لكن في هدوء وسكينة، وحينها تتحسن وظائف جسمك، ويبدو النصر أقرب من أي وقتٍ مضى.
وبينما أنت على ذلك، تنظر حولك، وتدرك شيئاً كنتَ غافلاً عنه منذ البداية، أن هؤلاء ليسوا أرقاماً، الخمسة آلاف وفاة في يوم واحد لم يكونوا أرقاماً، المتوفى الوحيد خلال 24 ساعةً لم يكن رقماً، الألف مصاب في يوم لم يكونوا رقماً، المصاب الذي دخل العناية المركزة لم يكن رقماً، كل هؤلاء بشر، وكل بشرٍ له حكاية، وكل إنسانٍ من المليون إنسانٍ، يملك أكثر من قصة، ثم حين يتحول المليون إلى أكثر من مليون، فالحكايات تزداد، لا الأرقام، وأولئك الذين يقضون نحبهم بينما يجاهد البقية، ليسوا أرقاماً، وعدد المرضى الذي يكون دائماً أضعاف عدد الأطباء، ليس رقماً، وطواقم التمريض ليست أرقاماً، والحكاية برمتها لا تجعلنا نأخذ الموضوع بطريقة حسابية، ونعتبره مجرد "معدّل" يرتفع وينخفض، مجرد عدد يزداد وينقص.
المعركة الحقيقية هنا، في ألّا يفوز علينا المرض، بجعلِنا نعد الخسائر بينما ننسى أن لكل فردٍ منهم جسماً أو جثماناً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.