وفي هذه الأثناء، تقدمت أكثر من 70 دولة بطلبات للاستفادة من برامج الطوارئ لصندوق النقد الدولي الذي رصد مبلغ 50 مليار دولار لمواجهة أزمة (كوفيد-19) والضغوط الناتجة عنها.
ومن بين هذه الدول بلدان من وسط وشرق أوروبا، فقد تقدّمت معظمُ الاقتصادات الناشئة التسعة من خارج الاتحاد الأوروبي بطلبٍ للحصول على مساعدات الطوارئ (قروض صفرية الفائدة) في نطاق "التسهيل الائتماني السريع" من صندوق النقد الدولي، في حين أنّ تركيا وروسيا أعلنتا عدم احتياجهما لهذه المساعدة.
ومع ذلك، فإن اقتصاداتٍ تعتمد -إلى حدّ كبير- على قطاعات الصناعة والسياحة والخدمات (مثل تركيا) لن يكون صعباً علينا أن نرى ثِقل الأعباء المالية الباهظة المترتّبة على الأزمة فيها. وبالفعل، فإنّ العديد من القطاعات الاقتصادية أصابها الركودُ، ووصلت إلى نقطة التوقف في سياق مواجهة فيروس "كوفيد-19".
وأمّا فيما يتعلق بإدارة هذه الأزمة التي من غير الواضح متى ستنتهي، فإن تجاربنا في الأزمات الكثيرة -عبر تاريخ تركيا- علّمتنا حقيقة مهمة للغاية، وهي ضرورة تلقّي الدعم في إدارة الأزمة من جميع شرائح المجتمع.
ولذا فإن تركيا -إضافة إلى إرسالها مساعدات طبية إلى أكثر من 20 دولة عبر العالم وإعلانها أنّها لا تحتاج أيَّ مساعدة من صندوق النقد الدولي- قد أطلقت حملةً مجتمعية لجمع المساعدات، بدعوة من رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
وبهذه الحملة، تمّ جمعُ مبلغ كبير من المال في وقت قصير، وقد أبدى الشعبُ اهتماماً كبيراً بالحملة، وفي وقت قصير نشَرت هذه الحملة أجواءَ التعبئة الوطنية في البلاد.
وهكذا رأينا المشاركين فيها -ممن كانت ظروفُهم المادية أفضلَ نسبياً من أولئك الذين توقَّف عملُهم ودخْلهم اليومي بسبب الأزمة- يمدون -في هذه الأوقات- يد المساعدة لأولئك الذين لم يتمكّنوا من جلب الخبز إلى منازلهم، بسبب انقطاع دخلهم اليومي.
إنّها خطوة مهمة للغاية تتجلى فيها وحدة الأمة واندماج الدولة والمجتمع، فالناس في مثل هذه الظروف يتشاركون جميعا في التكافُل، ويتذكر الأغنياءُ الفقراءَ فيتعاطفون معهم.
على أنه عندما تتم مقارنة الأموال التي تم جمعها في الحملة بالمساعدات التي تقدمها الحكومة لشريحة الفقراء نفسها، فإن كمية الأموال التي يتم جمعها في الحملة مهما بلغتْ تظلّ أقلّ بكثير جداً. ولكنّ هذه الحملةَ لها وظيفةٌ أبعدُ من ذلك بكثير، وهي إشاعةُ أجواء التكافل الاجتماعي بين المواطنين، وهذه مسألة مهمة للغاية.
ومن الطبيعي أن المعارضة اليسارية في تركيا لن تمرّ بهذه الحملات التطوعية مرور الكرام، دون أن تُرينا ردّاتِ فعلٍ غريبةً. وبالفعل لم يتأخّروا في إطلاق انتقاداتهم قائلين: إنّه في الوقت الذي تسعى فيه كلُّ الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى تقديم المساعدة لمواطنيها، نرى الحكومة في تركيا تجبي الأموال من مواطنيها! وتتساءل المعارضة بذهول: كيف يمكن لهذه الحكومة أن تجمع الأموال من جيوب مواطنيها ثم ترسل بها مساعداتٍ إلى دول أوروبية و20 دولة أُخرى؟!
وعلى كل حال، وقبل كلّ شيء، فإنه حتّى أغنى الدول في العالم تقوم بمثل هذه الحملات في مثل هذه الظروف، فقد أطلقت ألمانيا هذا النوع من حملات المساعدة، وحتى الكويت -التي مستوى دخل الفرد فيها أعلى بكثير مما هو في تركيا- نظّمت مثل هذه الحملات وجمعت قدراً مهمّاً من الأموال لمساعدة المتضررين.
وإلى جانب ذلك، فإن إطلاق مثل هذه الحملة ليس سببه فقط أن الحكومات بحاجة إلى المال، ولكن الهدف أيضاً هو حلُّ مثل هذه الأزمة بمشاركة المواطن، وجعْلُ المواطن جزءاً من الحل، وهذا يجعل الجميع يشعر بتحمُّل المسؤولية.
كما أنه يؤدي إلى زيادة التضامن بين المواطنين من جهة، وزيادة التضامن بين الدولة والمواطنين من جهة أخرى. وعلاوة على ذلك، فإن حملات المساعدة هذه تقوم على أساس طوعي، فلا يتم أخذ قرش واحد من أي شخص بالإجبار.
ونرى المعارضين -مع أنّهم لا يدفعون قرشاً واحداً- ينتقدون أولئك الذين يشتركون طواعية في حملات المساعدة هذه، تماما كما وصف القرآن الكريم {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [سورة النساء – الآية: 37]. وبالطبع فإن هذا السلوك له علمُ نفسٍ مستقلٌّ، ولكن اليساريّين العلمانيين في تركيا عموماً لم يدروا يوماً ما روح التضامن الاجتماعي ولم يشعروا بها، ويبدو أنه مع هذه الثقافة يصعب جداً حمْل شعور التكافل والإيثار.
وفي العموم، فإنّ التقاليد السياسية لليسار وحزب الشعب الجمهوري في تركيا تحمل نهجاً حاسماً تجاه ثقافة التضامن الاجتماعي في الأوساط المتدينة.
لكن مواقفهم هذه تجعلهم دائماً بعيدين عن الشعب، لأنهم يكتفون بالصراخ ومطالبة الحكومة بحل الأزمات، دون أن يأخذوا أي مبادرة مدنية للتضامن في تلبية احتياجات الناس المتضررين والتعاون في حلّ المشكلات الطارئة التي تعاني منها الفئات الأشد تضرراً في أيامنا.
ولكنْ في هذه الأثناء قد يموت بعض الفقراء جوعاً، فهذه الذهنية لا تكترث بمسألة المساعدات العاجلة للمتضررين. هذا في حين أنّ الفريق المتدين عندما كان في المعارضة لم يقصّر في انتقاد الحكومة، ولكنّه -في الوقت نفسه- كان يقوم بمبادرات مدنيّة لتقديم المساعدات العاجلة للفقراء والمحتاجين في المجتمع.
إنّ ابتعاد التقاليد السياسية لليسار -بمن فيهم حزب الشعب الجمهوري- عن ثقافة التكافل والتعاون الاجتماعي جعَله يبدو في عيون الشعب بلا رحمة. ومع ذلك، فإنهم في الماضي عندما كانوا في السلطة قبل عام 1950م لم يتردّدوا في فرض ضرائب باهظةٍ على الشعب لتلبية احتياجات الدولة.
أمّا الآن وبدعوة من رئيس الجمهورية التركية، فقد انطلقت حملة التضامن تحت وَسْمٍ فيه غمزٌ في قروض صندوق النقد الدولي، وهو #نكفي أنفسَنا بأنفسِنا يا بلدي تركيا#. لقد كانت هذه الحملة في الواقع خطوةً مهمة في أسلوب إدارة الأزمة بقيادة رجب طيب أردوغان. وأهم عناصر هذا الأسلوب: الحفاظ على معنويات الناس عاليةً بما فيه الكفاية في هذه الظروف، وعدم السماح لهذه الأزمة بأن تسحق الشعب ولا سيما أولئك الأشدّ ضعفاً وحاجة، وترسيخ الثقة بالشعب وإشراكه في حل الأزمة.
وفي الواقع، فإنّ الإنجازات العظيمة التي حققها حزب العدالة والتنمية خلال 18 عاماً من العمل المتواصل -في تطوير نظام الرعاية الصحية وفي الاقتصاد وفي السياسة- تشكّل في هذه الأيام العصيبة أكبرَ قوة لأردوغان يستعين بها في التغلب على الأزمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.