هل الأخلاق الإنسانية يمكن أن تُغني عن الدين؟

عدد القراءات
6,768
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/16 الساعة 12:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/16 الساعة 12:42 بتوقيت غرينتش
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط

لو نظرنا إلى مفهوم الإنسانية كصفة عاطفية في البشر، للاحظنا أنها صفة شمولية يتشارك فيها الجميع بدون استثناء، وهذا ما يجعل البعض يعتقد أنها من الممكن أن تقوم مقام الدين، أي أن تلعب دور دين عالمي حتى تضع حداً للنزاعات والصراعات التي تنشب بين الناس بسبب الدين أو العرق أو الطائفة أو الثقافة.

لكن هذا الأمر يضعنا أمام إشكال مهم، لابد من الخوض في توضيحه، فلو سلمنا بشكل يقيني أن العاطفة الإنسانية هي عاطفة عالمية ومشتركة بيننا جميعاً، فهل هذا يعني أنها ستُعوِّض الدين؟ وقبل هذا على أي أساس تقوم الإنسانية؟ هل هناك فلسفة يمكن أن تؤطرها وتبررها؟ وهل لها شرط تاريخي لظهورها أم أنها تجلت منذ البداية كضرورة ميتافيزيقية؟

لو عدنا تاريخياً إلى الوراء، فسنجد أن الإنسانية، كصفة يتم الحديث عنها، قد ظهرت، حسب التوجه العام عند المؤرخين، مع التوسعات التي قام بها الإسكندر المقدوني (الأكبر). فبفعل هذا السلوك العسكري، اكتشف الإنسان اليوناني أن الثقافة الحياتية لا تنحصر في المدينة التي يعيش داخلها فقط.

فقد كانت هناك رؤية مشتركة لدى اليونانيين في أنهم من نسل الآلهة بينما باقي البشر مجرد همج أو بربر، وقد كان اليوناني يعيش في ما يسمى بنظام (مدينة الدولة)، أي أن نظامه السياسي محصور في المدينة التي يقطنها، لهذا يرى أن الثقافة الحياتية، تخص مدينته فقط،  التي لها ميزة أفضل مقارنة  بباقي الأجناس، لكن بفعل التوسع الإسكندري فقد اكتشف اليونانيون ثقافات راقية كالثقافة الفارسية والثقافة الهندية والصينية والعربية والمصرية وحتى الأمازيغية، فصار اليونانيون يتحدثون عما يسمى بالمواطنة العالمية التي صِيغت في فلسفة الرواقية، فأصبح الإنسان أكبر من مواطن مدينة، لقد أضحى مواطناً في العالم.

لكن هذه الصيغة من الإنسانية كانت ضعيفة بسبب "صيغتها العسكرية"، فرغم الاعتراف بالإنسان كمواطن عالمي، فإن هناك إنساناً نبيلاً وإنساناً مواطناً وإنساناً من الرقيق، فحتى ولو تم الاعتراف بعالمية الإنسان، إلا أن هناك تفوقاً لأحدهم على الآخر.

مع مجيء المسيحية ظهر ما يسمى بـ "المساواة أمام الله"، ومصطلح "الكاثوليكية" تعني العالمية، بمعنى أن الإنسان هو كائن عالمي، يتساوى مع مثيله أمام الله في الخطيئة الأولى، التي وقع فيها آدم. لكن تستمر المسيحية فتقول إنه بعد مجيء المسيح الذي ضحى بنفسه من أجل مسح ذنوب البشر، صار هناك مسيحيون آمنوا بتضحية عيسى وتجاوزوا عن ذنب الخطيئة الأولى، بينما غير المسيحيين رغم أنهم بشر فإنهم لم يؤمنوا بالمسيح لهذا مازالوا يعيشون في ذنب الخطيئة الأولى. 

عندما جاء الإسلام، قدم نفس المعنى من المساواة أمام الله، فالله رب العالمين، أي أن البشر متساوون، ويعيشون في عالم واحد، يجمعهم ليصبحوا "عالمين"، لكن الفرق في الإسلام هو التقوى، ولا يتعلق بالخطيئة الأولى أو العسكرة (الهيلينية)، وإنما بسلوك الفرد، فحتى لو أصبح الشخص مسلماً فإنه لا يأخذ الامتياز عن الشخص الآخر إلا في سلوك "التقوى".

مع ذلك فإن هذا الفرق لا يأخذ تجليه في الحياة الدنيا وإنما في الآخرة، لهذا فإن الإسلام هو الوحيد الذي يُقسم الجنة إلى درجات وجهنم إلى دركات. بينما يدع أمور الدنيا بدون تقسيم، حيث يخطئ فيها المسلم وغير المسلم، ولا يصير هناك امتياز إلا بعد التوبة عن الخطأ التي يتعلق بالسلوك وليس بخطيئة تاريخية. لكن يبقى امتياز المسلم في الآخرة، هو امتياز أي مؤمن آمن بوجود الآخرة وبوجود الله وبالرسالة الأخيرة.

أما في العصر الحديث، فقد أخذت الإنسانية صبغتها من فلسفة كانط الأخلاقية (نقد العقل العملي)، التي سعى من خلالها إلى طرح صيغة من الأخلاق تستمد دافعيتها من العقل فقط،  الذي يتساوى فيه كافة البشر.

فكانط يحاول أن يستقل بالأخلاق عن الدين والمنفعة، لذلك قدم ثلاث قواعد عقلية لترسيخ هذه الأخلاق، ومن أهمها قاعدة "تعميم قاعدة السلوك الخير"، حيث يقول فيها أن يتصرف الشخص وفق قاعدة حيث يتمنى أن تكون قاعدة لتشريع عام (أو عالمي)، فمثلاً، لو أردت أن تسرق، فهذا السلوك لا تريد أن يكون عاماً، لأنك قد تقع ضحية له، لكن لو أردت أن تُدافع عن شخص مظلوم، فإنك طبعاً سترغب أن يكون هذا السلوك قاعدة عامة وعالمية.

إذن كانط هو المُنظِّر للإنسانية الحديثة، لأنه ألغى سياق المنفعة والدين، من بنيتها التحتية (ليس بالمعنى الماركسي). 

لكن كانط نفسه سيجد نفسه في الأخير، يفترض وجود الله، لأنه تحسر، عندما فهم بفطنته الفلسفية أن الإنسان إن كان خيِّراً دون هدف نفعي، فإنه سيعيش حتماً مخبولاً في حياته، بدون اعتراف بأعماله، لهذا لابد من كيان مطلق يرى كل أفعال الناس، ويمكنه أن يرى أفعال الخيرين ويجازيهم على أفعالهم بعد الموت.

فمثلاً لو كان هناك شخصان، يستلزم الواقع أن يُضحي أحدهما من أجل بقاء الآخر، فما هو جزاء المُضحي بحياته في حياته؟! لا شيء فقد مات، فتشي جيفارا مات يُدافع عن الفقراء ضد الظلم الإمبريالي، فهل خلوده في التاريخ قد أعطاه ما يستحقه؟ (لقد تحدث ديدرو ومدام رولان في القرن الثامن عشر عن مسألة خلود المرء في التاريخ لكي يذكره الخلف والأجيال المستقبلية بخير، وهذا كتعويض عن نفيهم لافتراض الخلود الشخصي بعد الموت، وكم ضحك ألبير كامو عن هذا الرأي بدون عبث).

افتراض كانط لوجود الله جعل البعض يعتبرونه مجرد قسيس بروتستانتي بملابس علمانية (فرضية نيتشه)، والبعض الآخر قالوا إنه يريد أن يعيد بناء الإيمان بالله عن طريق كتابه "نقد العقل العملي"، بعد أن هدمه عن طريق كتابه "نقد العقل الخالص" (وهذا تصريح خادمه).

أضف إلى هذا أن الإنسانية كما طرحها كانط، بالاعتماد على العقل فقط، تعاني من إشكال كبير، وهي افتراضها الميتافيزيقي لإرادة الخير لدى كافة البشر، أي أن البشر يفعلون الخير من أجل الخير، وهذا تصور مثالي للإنسان، فكم من مُدعٍ إنسانية صار فاشياً (الإنسان الغربي الإمبريالي ستالين و موسوليني وماوتسي تونغ…)، فظروف الواقع تفرض على البعض أن يفعلوا الشر رغم أن شخصياتهم خيّرة.

في وقتنا الحالي، ساهمت العولمة الاتصالية في ترسيخ "التعاطف الإنساني"، لكنها بدون أساس متماسك لاستمراره، فحتى ولو تعاطف الغربي مع الإنساني الجنوبي، فإنه يعطي الأولوية لأمنه القومي، فهو يحمل علم بلده ثم يصرخ عالياً بأنه يشعر بمعاناة الآخر الذي يعيش في ظروف قاسية.

طبعاً تعاطفه لا غبار عليه، لكن إنسانيته هذه ليست هي الأولى، فلو خيرناه بين أسرته والإنسانية، لاختار أسرته، ولو خيرناه بين عمله وإنسانيته لاختار عمله. لكن المؤمن المتدين لو خيرناه بين أسرته ودينه لاختار دينه. ونفس الأمر مع عمله.

إذن، الإنسانية هي بكل تأكيد صفة ذات شأن راق جداً، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالتعاطف مع الآخر أمر يتشارك فيه الجميع، المؤمن والكافر، وخاصة خلال الكوارث، فقد لاحظ كارن روس و نعومي كلاين ذلك. ففي كارثة تسونامي سنة 2004 التي ضربت جزر المالديف، تعاون المسلمون والهندوس جنباً إلى جنب، لتجاوز تلك المحنة. لهذا في أوج وباء كورونا نجد تعاطفاً إنسانياً متشاركاً بين الجميع.

إذن الإنسانية عالمية، لكنها بدون أساس متين، فإن لم يحفزها الجانب الديني فستتناثر، وقد حاول أوغست كونت وضع دين إنساني لكن مشروعه أخفق، لأنه يتناقض مع مشروعه الوضعي بالمطلق. لهذا، فالإنسانية بدون خلود وجزاء مشابه لسلوكها الراقي لن تصمد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد أمزيل
باحث وكاتب مستقل
تحميل المزيد