يعيش العالم اليوم على وقع أزمة صحية غير مسبوقة، جراء تفشي فيروس كورونا المستجد، أزمة تُنذر بانهيار وشيك في كل المجالات، والأيام القليلة المقبلة كفيلة بإظهار هول الكارثة التي تُهدد مستقبل العالم بأسره.
لم يكن في حسبان الجميع في بداية ظهور فيروس كورونا المستجد، في مدينة ووهان الصينية، أن يتحول هذا الفيروس القاتل إلى فيروس عابر للقارات، وغازٍ ومحتل لكل دول العالم، القوية والضعيفة منها على حد سواء، لا أحد كان يتوقع أن هذا الفيروس الفتاك لديه هذه القدرة الرهيبة على عزل الدول عن بعضها البعض، وإرغامها وإجبارها على إغلاق حدودها ومنافذها البرية والبحرية والجوية، لا أحد كان يبالي بخطورته ويعتقد أن هذا الفيروس الذي لا يُرى حتى بالعين المجردة قادر على بث الرعب والهلع في زعماء أعتى الدول وأقواها في العالم، كما فعل وحدث اليوم.
لم يكن أحد منا يتوقع أن يظل حبيس جدران منزله، منعزلاً بشكل إجباري عن أصدقائه وعن العالم الخارجي، يترقب بخوف وفزع ما ستؤول إليه الأحداث، وما ستُسفر عنه الأيام القادمة، ويعد بقلق وارتباك ما تبثه وسائل الإعلام المختلفة من إحصائيات المصابين والمتوفين من ضحايا فيروس كورونا القاتل.
كان الجميع يظن أن الأمر مجرد لحظة عابرة لا تستدعي الخوف والقلق، ولا تستوجب اتخاذ ما اتُّخذ اليوم من الإجراءات والتدابير الاحترازية، بل كان هناك من ينكّت ويسخر على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي من هذا الفيروس في بداية ظهوره، ومنهم من يتشفّى في الصينيين ويسخر منهم، ولم يكن أحد يتخيل أن كارثة حقيقية حلت بالبشرية جمعاء، ولم يكن أحد يتخيل أن تتوقف الحياة بهذا الشكل المخيف الذي نراه اليوم، بعدما كانت مدن وعواصم مختلف دول العالم تضج بالحياة، وليلها شبيه بنهارها، أصبحت اليوم مدن أشباح، خالية من المارة، يسودها الهدوء والسكون، أغلقت المتاجر والمحلات أبوابها، وعزلت المدن والبلدات عن بعضها البعض، منع السفر والتنقل بينها، وأعلنت حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال منعاً لتفشي الفيروس وانتشاره زيادة على ما هو عليه اليوم في كثير من الدول.
تجاوز عدد الإصابات في العالم اليوم سقف المليون إصابة، وحصيلة الوفيات نتيجة هذا الفيروس اللعين في تزايُد مستمر.
لم يشفع للعالم تطوره، وتكنولوجيته، وتفوقه العلمي أمام قوة كورونا، وها هو يتحدى كل يوم غطرسة وجبروت العالم أجمع.
لم يخشَ قرارات مجلس الأمن وحق الفيتو، ولم يحسب لحلف الناتو أي حساب، لم يأبه لعقوبات أمريكا، ولم يركع لتهديدات إيران وروسيا، بل داس على الجميع، وتفنن بوحشية غير معهودة في حصد مزيد من الأرواح، ومضاعفة أعداد المصابين بين سكان العالم، دون اعتبار لجنسهم، وعرقهم، ولغتهم، ودينهم، ومكانتهم الاجتماعية.
بالرغم من قساوة الحياة وصعوبتها في ظل زمن فيروس كورونا، فإنها أسقطت ورقة التوت عن أشياء كثيرة، في وقت قياسي كذلك، أسقطتها عن مجموعة من المصطلحات، من قبيل التحالف الدولي، وفضحت زيف مجموعة من المسميات، من قبيل الدول الصديقة، والدول الحليفة، وعرَّت مجموعة من الاتحادات والتكتُّلات السياسية والعسكرية، جعلت أزمة كورونا كل دولة من دول العالم تحارب وتواجه وتعمل من أجل شعبها، مجنّدة من أجل مصلحته، وصحته، وسلامته، معتمدة على إمكاناتها الذاتية، ومواردها، وأطرها، في محاربة جائحة كورنا.
على المستوى الوطني كان فيروس كورونا المستجد في الموعد، رغم خطورته ووحشيته، وقلة ذات اليد، وضعف الإمكانات لدينا، نبهنا كدولة ومواطنين إلى تقصيرنا وإهمالنا بأشياء نتحسر اليوم ونبكي حالنا على إهمالها، وعدم اهتمامنا بها فضح هشاشة منظومتنا الصحية والتعليمية، حدد لنا قائمة من الأولويات التي يجب الاهتمام بها والاستثمار فيها، على غرار الصحة والتعليم، حدّد مقابل ذلك قائمةً من الأشياء التي لا قيمة لها، استنزفت جهدنا، وطاقتنا، وثراوتنا، دون أهمية وجدوى لها، وشغلتنا عمّا هو أهم منها، فرض علينا فيروس كورونا إسقاطها من قائمة أولوياتنا واهتماماتنا.
جائحة كورونا أسقطت اليوم الأحزاب السياسية من أولوياتنا، وأظهرت لنا في قوة انتشارها عدم أهمية الأحزاب السياسية، والحاجة إليها، في ظل الوضع الذي تظهر به اليوم وقبل ذلك، كما أسقطت الجائحة الخطيرة البرلمان، ومعه مجموعة من الحقائب الوزارية والنخب السياسية، والزعامات الحزبية على كثرتها، والتي تبين في زمن كورونا أن مهمتها تقتصر على إثقال كاهل الميزانية العامة، والتهام ما لذّ وطاب من التعويضات والرواتب الدسمة.
لم تكتفِ جائحة كورونا بهذا، بل أظهرت لنا اليوم أن ما لم تنجح فيه الأحزاب السياسية، والحكومات المتعاقبة، في تسيير شؤوننا منذ 60 سنة نجح فيه اليوم القواد، والباشوات، ورجال السلطة، ورجال الدرك، والقوات المساعدة، وعمال وولاة جهات المملكة بسبب كورونا.
في زمن كورونا انضم إلى طابور المتساقطين وركبهم زمرة من الفنانين ونجوم السوشيال ميديا التافهين والسافلين الذين يروجون للتفاهة في وسائل الإعلام، ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي، ويقيمون لهم فيها وزناً.
لم تكتفِ جائحة كورونا بتحديد قائمة المتساقطين هؤلاء، بل أعادت ترتيب قائمة الأولويات، أعادت الجميع إلى حجمه وموقعه الطبيعي، فرفعت من قيمة وقدر رجال التربية والتعليم، وأعادت الاعتبار للأطباء والممرضين، وأعلت من شأن رجال الأمن، وعمال النظافة، وغيرهم من الجنود المجندة التي تحارب وتجابه كورونا في ساحة المعركة.
صحيح أننا اليوم قد يضيق بنا الأمر ذرعاً من تبعات جائحة كورونا، ونتذمر من العزل الإجباري الذي نعيش على وقعه اليوم بسببها، ونشتكي من تغير نمط حياتنا رأساً على عقب، غير أن الغد سيكون مشرقاً بعد زوال هذه الأزمة، يكفي أن نعتبر من أزمة كورونا ونتخذها، دولة ومواطنين، فرصة لجلد ذواتنا، لنفتح بعدها صفحة جديدة لتصحيح المسار، والاهتمام بالأولويات، لعلنا نتمكن فيها من الاعتماد على الذات في كل شيء، نتمكن من صنع دوائنا، ونؤمن لقمتنا، ونصنع سلاحنا، نعلي من شأن العلم، ونقيم وزناً للعلماء والمعلمين، ونشجع المبتكرين والمخترعين، ونضع في سلة المهملات التافهين والجاهلين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.